TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > دولتنا مثلنا.. بشخصيّة مزدوجة

دولتنا مثلنا.. بشخصيّة مزدوجة

نشر في: 8 يناير, 2013: 08:00 م

تعيّن على عالم الاجتماع الراحل علي الوردي أن يكرّس حياته كلها، وأن  يطلب العلم  في الجامعة الأميركية في بيروت (البكالوريوس) ثم في جامعة تكساس بولاية تكساس الأميركية (الماستر والدكتوراه) خلال النصف الأول من القرن الماضي، وأن يرتحل بين مدن ومناطق مختلفة من العراق لكي يكتشف ويثبت أن الشخصية العراقية ازدواجية، تحمل في دواخلها قيماً متناقضة هي قيم البداوة وقيم المدنية.
ومن دون التقليل من المنجز الفكري والعلمي الكبير والمتميز للوردي، فان زائراً عربياً استطاع أن يتوصل، خلال زيارة واحدة إلى عاصمتنا دامت بضعة أيام، إلى النتيجة نفسها التي انكبّ الوردي طوال حياته على دراسة وتحليل مقدماتها ومظاهرها وأسبابها وعواقبها. ذلك الزائر أعرب لمضيفيه في بغداد عن دهشته مما رأته عيناه من عناية بائعي الأحذية العراقيين بعرض بضاعتهم شديدة النظافة واللمعان خلف واجهات زجاجية محكمة فيما باعة الأطعمة يعرضون بضاعتهم مكشوفة للشمس والغبار والحشرات الطائرة والدابّة!
نعم هذه إحدى المفارقات الكثيرة الكبرى في حياتنا الاجتماعية، نحن العراقيين، فحتى هذا اليوم، التاسع من الشهر الأول في العام الثالث عشر من الألفية الثالثة، لم نزل نحرص على شراء ولبس الأحذية المحفوظة في "جامخانات" موصدة، ولا نتردد في أن نأكل الكباب والكص (الشاورما) والباجة والمسكوف والرز والمرق والخبز المعروضة في الهواء الطلق المشبع بالغبار والهوام والجراثيم!
دولتنا هي أيضاً، بخاصة الحالية، على صورتنا هذه. فكل مسؤولي هذه الدولة، من الرؤساء الثلاثة ونوابهم الى أعضاء البرلمان والحكومة والوكلاء والقادة العسكريين والمحافظين واعضاء مجالس المحافظات والمدراء، بمن فيهم مدراء البلديات، وأعضاء السلطة القضائية والهيئات "المستقلة" التي أصبحت تابعة للحكومة، يحرصون أشد الحرص على الظهور في أبهى وأزهى صورة، فيما البلاد التي يديرونها كلها تغرق في الأزبال والمياه الآسنة والمشاهد والمناظر الصادمة للأعين والأنوف والآذان، فضلاً عن الفساد المالي والإداري والفقر والبطالة وسوء الخدمات العامة.
يظهر هؤلاء المسؤولون أمام الكاميرات ببدلات أنيقة وقمصان ناصعة الألوان وربطات عنق مزركشة وأحذية لمّاعة، بينما لا تنخدش حواس بصرهم وشمهم بما يترامى أمام أنظارهم خلف الكاميرات من تلوث بيئي خطير.
وكما يهتم مسؤولو دولتنا بمظهرهم المرتّب يعتنون باختيار الألفاظ المنمقة للحديث عن الوطن ومصالحه والشعب مطامحه وعن نذر أنفسهم لخدمة الشعب والوطن وابتغاء مرضاة الله، لكن لا يخدش حياءهم ولا يُوخز ضمائرهم إنهم يكذبون علينا في كل ما يقولون، والدليل هذا الخراب المتفاقم على أيديهم للعام العاشر على التوالي .. والى أعوام أخرى ممتدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. سلام محمد علي

    لقول لينين ان هناك سياسيين ياقاتهم بيضاء ومنشأة ولكن سراويلهم الداخلية قذرة .

  2. خضير الدهلكي

    الكاتب الفاضل لاشك ان مرض الازدواجية خطير ومشخص ولكن ماهي الحلول اعتقد ان الحقيقة مؤلمة وهي يجب اعدة بناء الشعب نفسيا واعادة تأهيله هي مهمة كبيرة وشاقة

  3. سلام محمد علي

    لقول لينين ان هناك سياسيين ياقاتهم بيضاء ومنشأة ولكن سراويلهم الداخلية قذرة .

  4. خضير الدهلكي

    الكاتب الفاضل لاشك ان مرض الازدواجية خطير ومشخص ولكن ماهي الحلول اعتقد ان الحقيقة مؤلمة وهي يجب اعدة بناء الشعب نفسيا واعادة تأهيله هي مهمة كبيرة وشاقة

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

 علي حسين ما أن خرج الفريق عبد الوهاب الساعدي ليتحدث إلى احدى القنوات الفضائية ، حتى اطلق بعض " المحلللين " مدفعيته تجاه الرجل ، لصناعة صورة شيطانية له ، الأمر الذي دفع...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

سعد سلوم على مدار عقود، انتقلنا من توصيف إلى آخر: من "البلقنة" في سياق الصراعات البلقانية، إلى "لبننة" العراق بعد التغيير السياسي في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وصولًا إلى الحديث اليوم عن "عرقنة"...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram