فراس الشاروطالحب :هو الفعل الأزلي الذي يجسد بقاء البشر، والتمسك بالوجود، لذا يحاول الإنسان دائماً التمسك بوجوده الثاني ،نظيره، الذي يمثل لبقائه سبباً، ما دام هذا الحب هو حلقة الوصل بين لحظة الوجود الأولى (الحياة) ولحظة الرحيل الأخيرة (الموت)، من هنا
فراس الشاروط
الحب :هو الفعل الأزلي الذي يجسد بقاء البشر، والتمسك بالوجود، لذا يحاول الإنسان دائماً التمسك بوجوده الثاني ،نظيره، الذي يمثل لبقائه سبباً، ما دام هذا الحب هو حلقة الوصل بين لحظة الوجود الأولى (الحياة) ولحظة الرحيل الأخيرة (الموت)، من هنا أختار مايكل هاينكه لفيلمه عنوان (حب).
ما أن شاهدت هذا الفيلم حتى تذكرت (الحب في زمن الكوليرا) رواية غابريل غارسيا ماركيز طبعاً وليس الفيلم المأخوذ عنها ،فمشهد الرواية النهائي حين يحضن العجوز فلورنتينو أريثا حبيبته فرمينا داثا بعد سنوات الحب الطويلة في غرفة وسط السفينة التي تذهب وتجيء عرض البحر، حيث تسأله :الى متى يبقيان هكذا؟ ليرد عليها حتى نهاية العمر ،هذان العجوزان وثالثهما الحب هم محور فيلم هاينكه الذي خطف به هذا العام سعفة (كان) الذهبية، وكأنه يبدأ من حيث انتهت رواية ماركيز.
حدد المخرج مكان فيلمه في شقة باريسية ،عجوزان في الثمانينات من عمرهما، بينهما حب متقد يبدو أنه لم تنطفئ جذوته مع كل هذه السنوات، هذا ما نحسه من اعتناء أحدهما بالآخر ،نظرة كل منهما لرفيق دربه ... يفتح الفيلم مع عرض موسيقي، فهما قد قضيا حياتهما يعلمان العزف، يعود الزوجان إلى المنزل ليكتشفا أن باب الشقة تعرض للخلع، من دخل حياتهما في لحظة صفائها؟ هذا ما سيرد عليه الفيلم، أنه ليس شخصاً بعينه، أنه (الموت).
السكتة الدماغية الأولى ستتخطاها (آن) أما حين تباغتها الثانية ستتكشف الحياة عن وجه آخر، تغيب الزوجة عن الوعي لساعات، تفقد سمعها ونطقها، ويتحول الزوج الرقيق إلى طبيب وحبيب مداوٍ (جان لوي ترنتيان وإيمانويل ريفا يقدمان ملخص لعطائهما الفني ويتألقان في ذروة العمر) .
(حب) فيلم مقلق، يهز الأعصاب، يتلاعب بالمشاعر، فالحياة هي الحب ،ان عشته فإنك عشت حياة رائعة، هذا بالضبط ما أراد هاينكه قوله، أنه خط الوجود الذي يبدأ بمحطة الحياة ويتوقف عند محطة الموت وما بينهما هو الحب.
مايكل هاينكه لم يشأ أن يقدم كما عودنا في أفلامه السابقة شيئاً من القسوة والسادية التي اعتاد عليها ( كما في فلمه الحائز على سعفة كان ايضا معلمة البيانو) ،بل بدى هنا ثمة تصالح مع الذات خصوصاً وهو يسير نحو خريف العمر، لذا لم يقدم حكما وأمثالا بل ترك لنا التمتع بصفو الحب، وبلحظات لا تحتاج الى ثرثرة كلامية.
إن كان الثلاثي المخرج وممثليه قد تفننا في افتناننا فلا بد من الإشارة الى مدير التصوير (داريوشخوندجي) الذي قدمت كاميرته صوراً تشكيلية رقيقة، رقة العجوزين والموسيقا التي يعشقانها، بواقعية ومصداقية بين غرف تلك الشقة الباريسية الفخمة.
ومثلما أقتحم الموت شقة العجوزين أقتحم هاينكه حياتهما الدافئة ليرينا وجه الحياة بجمالها وألقها وعنفوانها، وكيف لنا في النهاية سنغادرها، لقد رفع نسبة الدم في عروق المشاهدين مع منسوب التوتر الذي تدفق إلى أقصاه حين لم يجد الزوج سوى (القتل الرحيم) وسيلة لينهي آلام مرض زوجته، ولينتصر الحب على الموت قبل أن ينتصر الموت على الحياة.
(حب) أكثر أفلام مايكل هاينكه رقة وهدوءً، وكأنه أراد أن يقول لنا، ما زال في العمر بقية، ما زال هناك متسع للحب والموسيقا، ما زالت هناك حياة تستحق ان تعاش.
بعد نهاية الفيلم تقف عاجزاً عن التصفيق، تنار الصالة، وتبدو حائراً متسائلاً عن الحقيقة، هل هي الحياة فعلا أم هي السينما؟