كتبت الشاعرة الموصلية منال الشيخ عبارة استوقفتني، واستشهدُ بها، آسِفاً أننا لا نستطيع إيراد مادتها كلها (وموضوع الاستشهاد الدقيق أو المجتزأ المغْرِض مجال مفتوح للنقاش)، تقول بمناسبة ما يحدث في الأنبار وبشأن العيساوي والمالكي، ما نصه: "طوال عمرنا نرى خارطة العراق موحّدة على الورق فقط ولكن لا صلة روحية بين الشمال والجنوب مهما ادعينا ذلك".
رد الفعل الآنيّ كان من قبيل: لعلنا كنا نعيش حباً روحانياً من طرف واحد، أو لعل الفتنة كانت نائمة، خائفة أو مُشْهرة طيلة تاريخ العراق الحديث وعلينا قول ذلك ولو بثمن التهمة عينها. وفي كلامي هذا، لاعترفُ، بعض الأسى والاشتعال الداخليّ والخوف من الطائفية. الصحيح في ظني، لو استطعتُ قول ما يمكن أن يكون فكرة منال الشيخ هو أن الاختلال الظاهريّ الراهن (أو تفكّك الصلة الروحية بين الشمال والجنوب على ما تقول) ناجمٌ عن "وحدة من الأعلى" بين مكوّنات ثقافية عراقية تمتلك التنوّع والاختلاف الموضوعيّ والتاريخيّ واللغويّ والإثنيّ الذي يجب أن يُؤخذ بالحسبان والذي لم يقع الاعتراف به منذ البدء صُراحاً، لصالح وحدة الوطن المبحوث عنها بشوقٍ وصدقٍ وعمقٍ في لحظة ما.
فكرتي هي: أن الدولة العربية الحديثة التي قامت باسم وحدة الوطن وقدسية ترابه بعد الاستقلال (من الدولة العثمانية أو من الهيمنة الاستعمارية الأوربية) قد قامت في جميع أنحاء العالم العربيّ بطمر جميع الاختلافات الكبيرة والصغيرة، بل قامتْ، في أسوأ النماذج، بعمل حفرةٍ جماعية، قبرٍ جماعيّ وطمرتْ فيه قسراً التنوّعات والاختلافات، وزعمتْ أن لا وجود لأيّ شقاق أو اختلاف البتة. لقد قُضى عليها بأشدّ أدوات العنف بطشاً، وقُلّص الاختلاف دليل الثراء الثقافيّ.
عندما ضعفتْ نبرة التحرّر من الاستعمار، وبالتوافق، منذ السبعينيات في الأقل، مع مفاهيم الاختلاف واليسار والوجودية والنسوية والتحرّر الجسديّ وقول المُضْمر السوسيولوجي والمسكوت عنه، فقد برز بقوة المطمور والمسكوت عنه. يظهر ذلك في العراق بشكل واضح. وقبله في حرب لبنان الأهلية الذي لم يفهم بعض العرب يومها بل استهجن بزوغ المسكوت عنه والمختلِف فيه. ثم ظهر في مصر بين الأقباط والمسلمين، وفي المغرب العربيّ بشكل هادئ غالباً لكن حاسم بين المكوّنات البربرية والعربية، .. الخ. وسيظهر حتى في السعودية مثلاً لو تضعضعت الدولة المركزية فيها، بالضبط كما حدث في العراق ومصر ولبنان والجزائر. تعبّر المكوناتُ المهمّشة أو المقموعة أو المُعتبرَة غير ذات شأن بسبب السلطة والسطوة الروحية أو المالية أو الإعلامية عن نفسها، باضطراب أحياناً وعبْر مستثمر خارجيّ أو كليهما.
إذا ما استغراب البعض، خاصة في منطقة الجزيرة العربية، حدوث ما يحدث على أساس خلو بلدانهم من النزاعات الطائفية أو العرقية، فلأنهم ما زالوا يهمّشون أو يقمعون ما لا يجب تهميشه، وسيُعبِّر عن نفسه يوماً في الفضاء الثقافيّ والسياسيّ الهادئ والمنوَّم، والسعيد بترفه وعائداته الذي يُعتقد، لهذا السبب، أنه من دون "عقلية خرافية ومذهبية" كالتي تظهر هنا وهناك في العالم العربيّ. هذه العقلية لم تُناقش هناك حتى الآن علناً، كما يعرف الجميع.
لا يفكِّر البعض بالطمر القسريّ الواقع قطعاً، لصالح "واحدية" بل "وحدانية" تتجلى على كل صعيد آخر، وفي كل أنواع الخطاب، الدينيّ والسياسيّ والجنسويّ حتى لو وقع الزعم بقبول الاختلاف ظاهرياً. الاختلاف المقبول شكلياً يقع ضمن منظومة الواحدية التي تمنح لرأيها السيادة المطلقة وتهمِّش الرأي الآخر: الجبهات الوطنية قادتها أحزاب بعينها، والدول الدينية تقودها مذاهب بعينها، والفضائيات تروِّج لاتجاه ثابت وهي تناقش ببراعة "الاتجاه المعاكس". وقسْ على ذلك.
المطمور بالعنف يظهر في ثقافة البلاد، آجلاً أو عاجلاً إذا لم يُحترَم ويُناقَش ويُحَلّ.