لم يتقبلها منا السيد نوري المالكي ولا حزبه أو أتباعه او مقربوه ولا حتى من انتخبوه، يوم قلنا ان بقاءه في ولاية ثانية لن يكون بصالحه او بصالح العراق. وها هي الأحداث الأخيرة تثبت انه ورّط نفسه وأوقع معه البلد في ورطة حقيقية لا أحد قادر على ان يتنبأ بما ستجلبه من ويلات.
ما نراه اليوم من انقسام شعبي مخيف هو نتيجة لأسباب كثيرة. اولها واهمها ان العراق له خصوصيات اجتماعية وتاريخية وجغرافية، تفرض مواصفات معينة على من يريد ان يحكمه ديمقراطيا. واي قصور في تلك المواصفات سيضع الحاكم امام خيارين: اما ان يحكم البلد بالاستبداد والقهر، كما فعل صدام حسين، او ان يجمع اوراقه ويعتذر. ولان الاعتذار آخر ما يفكر به حكام اليوم، فلم يبق امام المالكي، او اي شخص آخر بنفس "مؤهلاته" او "مواصفاته"، غير ان يلجأ للاستبداد وسيلة للتمسك بكرسي السلطة.
لا اظنني بحاجة لتفصيل خصوصيات العراقيين لانها صارت من البديهيات التي يعرفها الطفل العراقي قبل المفكر. اي شعب بهكذا ثقافات ولغات واعراق واديان ومذاهب متعددة، لا يمكن ان ينجح في حكمه بالعدل حاكم بعقلية أحادية التفكير، اسلامية كانت او غير إسلامية.
من لا يعرف خصوصيات العراقيين تلك ويعيشها ويحبها، بدءا من طريقة غنائهم للأبوذية والعتابة وقواعد رقصة "الهجع" و "الجوبي" الى نكهة كبة الموصل وطريقة أكل "الدليمية" واصول طبخ "الباجة" البغدادية ولذة تشريب "الباجلة" عند اهل الحلة و"المسموطة" الجنوبية، لا يمكن ان يرحم العراقيين ويقدر همومهم.
كذلك يظل غريبا عن العراقيين من لا يحفظ بعضا من اغاني مسعود العمارتلي وسليمة مراد وزهور حسين ومائدة نزهت وأمل خضير وسيتا هاكوبيان. كما لا يكسب قلوب العراقيين من لا يجر حسرة عراقية خاصة حين يسمع داخل حسن وحضيري وناصر حكيم. ولن تطمئن قلوبهم لمن لا يطرب لصوت سعدي الحديثي وجبار عكار، ولمن لا يشعر بالدفء عندما يسمع حسين نعمة وفاضل عواد وتقاسيم منير بشير على العود. وليس من العراقيين من لا يتعوّذ معهم من شر عيون لا تدمع حين يمر بها صوت حمزة الزغيّر وهو يصدح "جابر يجابر ما دريت بكربله اشصار"، أو الشيخ حمزة الكعبي في "المقتل"وهو ينحب "هضمنه ما جره اعله أحد وشافه".
وهنا أسأل: ماذا سيفعل المالكي لو مسك أحد أبنائه او أحفاده "متلبسا" بسماع اغنية لحسام الرسام مثلا؟ وماذا سيقول لو انه، في احدى زياراته لطويريج، مر بصاحب دكان ينصت بشغف لصوت عبد الأمير طويرجاوي؟ وما الذي سيكون عليه شكل عينيه وحاجبيه لو صادف ان مر بالعمارة ولمح نساء فيها يرقصن "الهجع" في عرس أخيهن أو جمعا من صباياها يردحن: "تجنه لو نجيجن يا بنيات .. علوه ونصصنها الساعديات"؟ هل سيشاركهن الفرح ام انه سيعتبر ذلك من التفاهات والمحرمات؟
وأسأل أيضا: كيف سيتصرف المالكي لو فرضنا افتراضا انه تفقد صحراء الأنبار ومر بخيمة من خيام بدو تجمعوا حول صاحب ربابة يعتّب:
هلي ما لبسوا خادمهم خلكهم
بوجه الضيف ما ضيجوا خلكهم
هلي كبل العرش ربك خلكهم
كبل ما يبتدي بأرضو وسماه
وان نهض البدو بعد ان جاشت مشاعرهم ليرقصوا "الجوبي"، فهل سينهض ليشاركهم ام انه سيعتذر؟ قطعا سيعتذر لسبب كلنا نعرفه ونتفهمه أيضا.
الرجل معذور وليته اعتذر من قبل هذا، لارتاح وأراحنا معه.