طلب مني الاصدقاء ان اقدم "استعراضا" مختصرا حول البصرة أمام زوار مهمين بينهم واحد من "أقوى رجال شيكاغو"، واختاروا لاستقبال الضيوف منزل شناشيل وسط محلة السِيف (بكسر السين) يعود لشقيقة الشيخ خزعل امير المحمرة. جلسنا في الباحة المرصعة بنقوش القرن التاسع عشر، وهي نقوش حجر وخشب معتنى بها كمكان كان "خزعل خان" يطل عليه كلما فتح باب الغرفة العلوية المخصصة لمبيته في البصرة.
وكي لا تحتار في كيفية بدء الشرح الوجيز، يمكنك الهرب الى لحظة مؤثرة في مستمعيك الامريكان، وأحدهم وزير مالية سابق ومدير مكتب سابق لاوباما، والثاني سليل عائلة ثرية في شيكاغو وهو يملك واحدة من ابرز شركات النقل البحري "ان دبليو اي اتش" ويرعى معهد فنون وجائزة معمارية كبرى. اذن فهنا بحر ومال وامريكان وقصر صغير لشقيقة خزعل، وهذه امور تجعلني اصطحب المستمعين الى الماضي.
فبينما كان كريستوفر كولومبس يحاول العثور على القارة الامريكية، ظل تجار ايطاليا يتوافدون على حلب الشام سائلين عن اسعار البضائع. وكان التاجر الحلبي في لحظة كولومبس ينتظر كل مساء وصول حمام زاجل من البصرة عبر بغداد والموصل، والحمامة طارت مسافات طويلة وحملت في رجلها رسالة تتضمن اسعار القماش الصيني والبهار الهندي والخيول العربية.
كان على تجار الشرق الاوسط واوربا ان ينتظروا البصرة كنقطة ربط بين آسيا وطريق الافرنجة، كي تتولى تسعير البضاعة كل يوم، كما يقول كاسبارو بالبي التاجر من البندقية. اخبار القنصلية البرتغالية في المعقل عن معبر هرمز، ومعلومات خبراء الملاحة حول موعد وصول القوافل الشراعية والبرية وحال الاسواق الموازية عبر الساحل الاسيوي، هي امور تحسم اسعار هذه البورصة القديمة.
في منزل شقيقة خزعل بالبصرة كنا داخل حي سكني فخم استوطنه قبل قرون اولئك الذين يتولون وضع الاسعار في بورصة العالم القديم، وفي لحظة اكتشاف امريكا كان الباشوات ينجبون اولادهم هنا، ويتفاوضون مع اسطنبول حول كل شيء في واحدة من اقدم صيغ الاستقلال شبه الفيدرالي عن الامبراطورية.
ولان البصرة كانت كذلك فقد استوطنها كل الناس. ايها الملياردير اللطيف، لا علم لدي بموقفك من حزب شاس الديني في اسرائيل، لكن الاب الروحي له الحاخام عافوديا يوسف، مولود في منزل قريب على شناشيل خزعل خان هذه. والكثير من مشاهير العالم ولدوا في هذه الاحياء. وحين تنوون استثمار مبالغ كبيرة هنا فإنكم لن تفعلوا شيئا اكثر من المساعدة في اعادة الاعتبار لبورصة العالم القديم.
وكي لا يعتقد رجل الاعمال انها مدينة "مغرورة" مثلا، فإن البصرة كانت تستقطب كل الناس بفضل نظامها الاخلاقي الصارم الذي يتمسك بالتواضع والسلام والانفتاح، كقيم صالحة لبناء تجارة بين القارات. وهي ملامح فضيلة مميزة لمسها الوفد الامريكي خلال احاديث ودية مع مزاحم الكنعان البحار القديم الذي يتزعم تميم ويرحب بضيوفه بعبارات روسية وانكليزية وشعر للفرزدق رمز قبيلته الراسخ.
"رجل شيكاغو القوي" الذي يمتلك ايضا سلسلة فنادق "الحياة" عبر العالم، كان قد استمع الى عشرات قبلي بالطبع، واتخذ قراره بأن يخوض رهانا في البصرة. انه يؤكد لنا ان الدراسات التي اجراها مستشاروه تفيد ان هذه المدينة هي الاكثر تقبلا للاجانب، بين مدن المنطقة! فقد وضع التاريخ بصمته على تقاليد عملها مع بحارة الدنيا، ما يشجع هذا الملياردير على نقل جزء من استثماراته من آسيا الى موانئ العراق.
وبكلمات عملية كثيرا تليق برجل ستيني يدير مصالح في اربع قارات، يختصر لك توماس بريتزكر المشهد: استثمر دولارا في امريكا فيعود لي دولارين، اما في البصرة فإن الدولار قد يذهب دون عودة في خسارة محتملة بسبب الاضطراب العراقي، لكنه قد يربح اربعة دولارات، وهذا اغراء فريد.
وقد أتيح لنا ان نشاكس بيل ديلي الذي ادار مكتب اوباما وكان وزير مالية كلينتون ويحلم اليوم باسترداد منصب حاكم شيكاغو (كمهنة تتوارثها العائلة)، ووجدته لايزال وفيا لسياسة رئيسه الذي نأى بنفسه عن بغداد، معتقدا ان على العراق حل مشاكله بنفسه، ومحاولا تقليل المخاوف حيال نية سلطاننا احراق الرايخ وتقييد البرلمان واعلان موت الجمهورية. وفي حديثهما ظهر الفرق بين تقييمات السياسي والملياردير في امريكا، اذ يحاول وزير اوباما تجاهل حقائق كثيرة، بينما يتعاطف رجل الاعمال مع مخاوفنا ويحاول حسابها للاطمئنان على المستقبل.
قلت لرجل الاعمال ان البصرة لن تزدهر الا اذا عاد إليها "البحارة" من امثاله. وان خوفنا على المستقبل يتضاءل كلما وجدنا باحة الشيراتون المطلة على شط العرب وسفنه وتاريخه، تمتلئ بعمائم هندية وسحنات امريكية ولهجات اوربية. ان حركة المال اقوى سبب لحسم المصائر. فالذهب الذي اكتشفه كولومبس حطم اقتصاد العثمانيين، وسياسات السلاطين الاغبياء جعلت ألف سندباد يهاجر ويترك البصرة والعراق كله، في مواجهة ايام سوداء.
المال يجعل الامريكان يفتحون حوارا مع مراكز القوى المحلية في البصرة ويتعاملون معها كمدينة "عالمية"، وهذه رسالة بأن الساسة الطامحين لحكم البلاد بمفردهم وبحزمة قرارات تنقصها الحكمة، بعيدون عن منطق القرن الحادي والعشرين. فالمال العابر للقارات "يدخل البيوت من ابوابها"، لانه مال نجيب "ابن اوادم" ومحاط بمعايير الجودة، على عكس مال يصيب الساسة بالغرور ويجعلهم قادرين على التسبب ألف مرة بخراب كل بصراتنا.