TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الاختبار الحاسم

الاختبار الحاسم

نشر في: 12 يناير, 2013: 08:00 م

قد يصح القول بوجود "خلل عميق" في العقل المنيع عن رؤية البعد الانساني في احتجاجات المحافظات السنية، وهو جوهر هذه الاحتجاجات من جهة، ومعيار شرعيتها من جهة أخرى.

نعم يمكن لهذه المظاهرات ان تصبح مادة للإستثمار السياسي المخرِّب. يمكن أن تتحول الى سبب للشحذ الطائفي. يمكن أن تشكل عاملا لمزيد من التدخلات الخارجية المدمرة. ويمكن في الحد الأقصى أن تضيِّع البلاد في حرب طائفية. ولكن مصدر كل هذه الممكنات سببه النظر الى هذه الاحتجاجات بوصفها "طائفية" وبوصفها "سياسية"، وذلك بمعزل عن "البعد الانساني" الذي نعتقد بأنه أهم، وأسمى، ما فيها.

زمان كان الكثيرون ينظرون الى ما يقوم به نظام صدام بوصفه "سياسة". نعم ان كل نظام يعتمد سياسة، ويمارس سياسة. ولكن السياسة ليست عملا مفصولا عن حياة الناس. ومعنى هذه السياسة انما يقوم أساسا على ما يترتب عليها من آثار على حياة الناس. ومن هذه الزاوية يمكن النظر الى صدام بوصفه جلادا، والى الشعب الذي كان محكوما بـ "سياسته"، بوصفه "ضحية". بالتالي فإن جوهر سياسة صدام يكمن في سلخه حقوق الانسان.

كان الانسان في عراق صدام ضعيفا، مسحوقا، وحيدا، عاريا من كل حماية. فليس لديه من يمثله أو يدافع عنه. فصدام، شأن كل دكتاتور، جعل الجيش وسيلة من وسائل حماية نظامه، لا حماية الوطن والمواطنين. كما صيَّر أجهزة العدالة الجنائية، من شرطة وقضاء، أداة من أدوات حكمه، فتحولت وظيفة هذه الأجهزة من تحقيق العدالة الى ممارسة الظلم.

فماذا بقي للمواطن بعد أن أصبح الجيش والشرطة والقضاء ضده؟ لم يبق له هذا الوضع سوى أن يصير ضحية. وهذا هو "البعد الانساني" المسحوق والمدمر في عراق صدام. وهذه هي "القضية" الأهم في عراق صدام، قضية الضياع التام للإنسان وحقوقه.

احدى تمثيلات تلك المحنة كانت الريبة في كل شيعي، وسهولة اتهامه بأنه من "حزب الدعوة". وبطبيعة الحال فإن ذلك الحزب كان، وظل، شيعيا، ولكنه لم يكن يمثل الا نسبة ضئيلة ومحدودة للغاية من الشيعة. ولم يكن ذلك ليحدث لولا ان عصب السلطة، ومفاتيح القوات العسكرية والأمنية، كانت بيد القيادة أو الأسرة السنية الحاكمة.

شيء من هذا القبيل، مع فروقات غير قليلة، يحدث اليوم. فالسنة مأخوذون بجريرة تنظيم "القاعدة" الإجرامي. ان هذا التنظيم لا يمثل الا نفرا محدودا من السنة. ولكن الجميع مأخوذون بجريرته، وأيضا لكون عصب السلطة اليوم شيعيا: أي قيادة الجيش والشرطة والمخابرات. وقد ترتبت على ذلك "مظلومية سنية" شبيهة بمظلومية الشيعة والكرد في عراق صدام.

هذه المظلومية قد لا تخص الساسة السنة، لأن بينهم مشاركون ومستفيدون في "العملية السياسية"، بل تعم الأفراد العاديين من السنة. وهذه "المظلومية"، الممثلة خصوصا بالاعتقالات العشوائية وانتزاع الإعترافات بالتعذيب، هي ما يمثل البعد الانساني في الاحتجاج السني الحالي. ولكن الزمن اختلف، والشرط السياسي تغير، فالسنة يستطيعون الاحتجاج، كما يفعلون اليوم، ويجدون تفهما من شيعة عديدين بينهم نخب سياسية مهمة، كالتيار الصدري، بل ومن مرجعية السيستاني الحكيمة ذاتها التي دعت الجيش الى تجنب الاصطدام بالمتظاهرين.

وهذا التفهم هو ما يكسب الاحتجاج الحالي بعدا وطنيا. ولا سبيل الى تطوير هذا البعد، وإكسابه مضمونا انسانيا أو ديمقراطيا، الا من خلال الحيلولة دون أي استخدامات للجيش في السياسة، واستعادة أجهزة الشرطة والقضاء دورها في تحقيق العدالة. والعدالة هي المهمة الملحة التي تطرحها هذه الأزمة. وكل أزمة مناسبة تغيير، قد يكون للأحسن وقد يكون للأسوأ. وهذا هو الاختبار الحاسم، والأكبر من نوعه، الذي تواجهه "العملية السياسية" خاصة، وبقية نخب المجتمع العراقي عامة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. smh

    ذكي ومبدع جدا في خلق الحياد

  2. رمزي الحيدر

    هل البهائم على رأس السلطة تقرأ مقالاتك..؟؟..

  3. smh

    ذكي ومبدع جدا في خلق الحياد

  4. رمزي الحيدر

    هل البهائم على رأس السلطة تقرأ مقالاتك..؟؟..

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram