عرف قدماء المصريين عِلم التشريح، وربما كان سبيلهم إلى إتقان تحنيط الموتى، أو أن معرفة التركيب التشريحي لجسم الإنسان ضرورة من ضرورات التحنيط، كما عرفه علماء الإغريق ولهم فيه مؤلفات مثل أبوقراط وجالينوس. ويُذكر أن يوحنا بن ماسويه، كان يقوم بتشريح القرد
عرف قدماء المصريين عِلم التشريح، وربما كان سبيلهم إلى إتقان تحنيط الموتى، أو أن معرفة التركيب التشريحي لجسم الإنسان ضرورة من ضرورات التحنيط، كما عرفه علماء الإغريق ولهم فيه مؤلفات مثل أبوقراط وجالينوس. ويُذكر أن يوحنا بن ماسويه، كان يقوم بتشريح القردة في بغداد أيام الخليفة المعتصم. ولعل في كتاب «حي بن يقظان» الذي ينسب إلى (ابن طفيل) إشارة إلى استخدام الحيوانات في ما يمكن تسميته الآن (التشريح المقارن)، ذلك بطبيعة الحال ضمن معان فلسفية تصب في عدم التعارض بين العقل والشريعة أو بين الفلسفة والدين.
ولم يتطور علم تشريح جسم الإنسان دون وقفات مثيرة للجدل؛ تمثلت في خاطفي الأجساد الذين كانوا يسرقون جثامين الموتى من القبور ويبيعونها لمعلمي التشريح والباحثين في أسرار ذلك العِلم التي لم تتكشف طلاسمه وتنجلي لولا جسارة العلماء الأوائل الذين تغاضوا عن الاعتبارات التي تعد الآن خرقاً صريحاً لحقوق الإنسان وكرامة الجسد. لحقت تلك الحقبة فترة صحوة علمية وإنسانية دفعت بعض الناس إلى التوصية بأن توهب أجسادهم من أجل البحث العلمي .
أما اليوم؛ وبعد التطور الهائل في مجال المعلوماتية والتوثيق الرقمي والواقع الافتراضي، فقد ظهر إلى الوجود التشريح الافتراضي أو التشريح الرقمي الذي يعتبر نقلة نوعية في مجال التشريح لبيان سبب الوفاة وكذلك علم تشريح جسم الإنسان بصفة عامة. وخلافاً للتشريح التقليدي الذي يعتمد على إحداث شقوق في جسم الإنسان للتمكن من فحصه داخلياً، فإن التشريح الافتراضي يعتمد على استخدام التصوير بالأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي للحصول على صورة متكاملة لجسم الإنسان تتكون في أصلها من قطاعات متعددة؛ يمكن تجزئتها رقمياً إلى شرائح رقيقة متعددة تشاهد بأبعاد ثلاثية ويمكن تحريكها وتفحصها بشكل لا يتأتى حتى بالتشريح التقليدي؛ فيتمكن الطبيب الشرعي من فحص الأنسجة الرخوة والعظام والأحشاء والأوعية الدموية بتفصيل دقيق للتوصل إلى سبب الوفاة وكيفيتها .
من مميزات التشريح الافتراضي توفير توثيق رقمي لتفاصيل جسم الإنسان يدوم إلى الأبد. هذه الوثائق الرقمية تُمكِّن الأطباءالعدليين من أقاصي العالم من تبادل المعلومات والآراء بطريقة إلكترونية دون تكبد عناء السفر، كما يمكن تخزينها للرجوع إليها في المستقبل.
ويمكن من خلال التشريح الافتراضي أن يظل الطبيب العدلي في مكانه، وبدلاً من انتقاله هو ينقل إليه الجثمان على هيئة صور التشريح الافتراضي التي ترسل إليه إلكترونياً، وبهذا يمكن الاستغناء عن توظيف طبيب عدلي في المستشفيات التي يتوافر فيها أجهزة التصوير بالأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي. أما بالنسبة للعاملين بالقانون فسيمكنهم التشريح الافتراضي من مشاهدة ما يتحدث عنه الطبيب العدلي وفهم الحقائق الفنية دون الاضطرار إلى مشاهدة الصور التقليدية التي تتصف بالشناعة.
والميزة الأخيرة للتشريح الافتراضي تكمن في الإبقاء على الجسد متكاملاً دون نقص أو تشويه، مما يحافظ على مشاعر أقارب المتوفى الذين تتفاقم مشاعر الفقدان والأسى والحزن لديهم عندما يعلمون ما ينتظر الجثمان من تأثيرات تتطلبها عملية التشريح التقليدي.
ومن المعروف عدم تقبل بعض الأديان والثقافات لمسألة شق وقطع جسم الإنسان الميت التي يعتمد عليها التشريح التقليدي، بل إن من الأطباء العاملين في هذا المجال من صار ينفر من عملية التشريح ولا يرضاها إلاّ على مضض وفي أضيق الحدود؛ وهذه حقيقة قد لا يقدرها العديد ممن يظنون إن العاملين مع الموتى تتحجر قلوبهم وتتصلب مشاعرهم، ولكن الواقع يكذب تلك الظنون في أحيان كثيرة. هؤلاء الأطباء يتطلعون إلى التشريح الافتراضي برغبة شديدة وتوق لأن يصير بديلاً يخلصهم من إحدى ضرورات الحياة المؤلمة التي لم يكن من دونها مناص.
كما تعتبر صور التشريح الافتراضي الرقمية مادة ممتازة للتدريس سواء على المستوى الجامعي في كليات الطب أو على مستوى الدراسات العليا والتخصصية. ففي كليات الطب يعتمد تدريس مادة تشريح الجسم البشري على أجساد موتى أوصوا قبل وفاتهم بأن توهب أجسادهم للعِلم، وتلك الأجساد تكون في الغالب قد استخدمت مراراً وتكراراً نظراً لعدم توفرها، بحيث يستخدم جسد جديد لكل مجموعة من الطلبة. تلك الحقيقة تجعل التفاصيل التشريحية للأوعية الدموية والأعصاب والعضلات والمفاصل لا تمثل نموذجاً صحيحاً. أما نموذج التشريح الافتراضي فلا يتغير بتكرار استخدامه، بالإضافة إلى وضوحه بدرجة أكبر بكثير من التشريح الحقيقي. كذلك يمكن للدارس أو الطالب أن يعيد عملية التشريح أكثر من مرة، ويعود للمراجعة كلما أراد.
وينطبق الشيء نفسه عندما يستخدم الجسد الافتراضي لتدريس عِلم الأمراض أو الطِّب العدلي في كل المراحل التعليمية بكليات الطب. يتمكن المعلمون والدارسون من متابعة العملية التعليمية في ظروف مريحة دون روائح كريهة ولا مناظر مؤذية.