التصنيف العلمي الصحيح يقسم كيفية الوفاة إلى خمسة صنوف: وفيات طبيعية (أي بسبب مرض)، ووفيات عارضة (ومن ضمنها حوادث السيارات)، ووفيات ناجمة عن قتل، ووفيات ناجمة عن انتحار. أما الصنف الخامس فيشمل الوفيات مجهولة الكيفية؛ أي عندما يُعرف السبب (الغرق مثلاً)، ولا نعرف الكيفية (هل حدث الغرق عرضاً أم انتحاراً أم قتلاً). لا يشتمل التصنيف العلمي على صنف بعينه من الوفيات يقع (قضاءً وقدراً) لأن الواقع أن كل ما يحدث في الحياة يندرج تحت القضاء والقدر، سواء كان خيراً أم شراً، وكما يقال: يفر الإنسان من قدر اللّه بقدر اللّه إلى قدر اللّه!
ليس من الضروري أن نجتهد ونبحث إذا أردنا تناول أسباب حوادث السيارات بطريقة علمية منهجية، فقد سبقنا علماء وباحثون اشتغلوا وكتبوا حول ذلك، فما علينا إلاّ أن ننظر وأن نقرأ. بيد أن أكثر المتحدثين عن أسباب حوادث السيارات يلومون السرعة الزائدة، وهي في نظري كبش الفداء الذي يقدم قرباناً ليخفي الأسباب الحقيقية؛ وهي عديدة، ليس أقلها الحماقة!
إذا أردنا دراسة دور السرعة في حوادث السيارات علينا أن نستبعد سائر الأسباب المحتملة. كيف ذلك؟ نجعل شخصاً عاقلاً يقود سيارته بأقصى سرعة في مضمار سباق خالٍ ليس به عوائق ولا سيارات كي يصطدم بها. إذن؛ إذا كررنا هذه التجربة ألف مرة واستخدمنا في كل مرة سائق عاقل مختلف ووصلت السيارة التي تسير بأقصى سرعتها إلى آخر المضمار في كل مرة، فمعنى ذلك أن السرعة وحدها ليست سبباً في حوادث السيارات.
ثم دعونا نختار ألف سائق أحمق، ونجعلهم يكررون التجربة بالكيفية نفسها وفي المكان ذاته، ونرى كم من الألف محاولة تبوء بحادث. إذا حصلت حوادث فما معنى ذلك؟ معناه أن السبب في تلك الحوادث يعود إلى الحماقة. الحماقة قد تجعل بعض السائقين يسيئون التقدير فينحرفون فجأة أو يخرجون بالسيارة عن حدود الطريق فتنقلب. الحماقة تجعل السائق لا يتأكد من صلاحية سيارته، فيقودها بأقصى سرعة دون أن ينتبه إلى أن إطارات دواليبها بالية، فينفجر أحد الإطارات وتنقلب السيارة.
السائقون الداخلون من الطرق الفرعية إلى السريعة ببطء، أو يقودون ببطء في الطرق السريعة التي لا يجوز القيادة فيها بأقل من سرعة معينة يتسببون في الحوادث التي قد تكون وخيمة العواقب. والذين ينحرفون بسياراتهم من مسار إلى آخر فجأة ودون سابق إنذار، فيعترضون طريق السيارات الأخرى فتصطدم بهم. والسائق الذي يقف في الإشارة الحمراء ولا يتحرك في الوقت المناسب عندما تتغير الإشارة إلى اللون الأخضر فيعطل الذين خلفه فيسرعون لتجاوز الإشارة، ثم يقرر الوقوف فجأة فيصطدم به من خلفه.
والسائق الذي يغالب النوم في الطريق الطويلة، فلا يتوقف لينام ويستمر في السير فينام خلف المقود ويتسبب في كارثة لنفسه وللآخرين. والقيادة العدوانية؛ فهذا يريد أن ينتقم من الذي دخل بسيارته أمامه عنوة، فيسابقه ليفعل معه الشيء نفسه، وذاك يريد أن يكيل الصاع صاعين للذي توقف أمامه فجأة وكاد يجعله يصطدم به، وآخر يريد أن يؤدب الذي نظر إليه بازدراء وهو يسبقه، فيسابقه دون الالتفات إلى مخاطر الطريق. والسفر بالسيارة بعد حلول الظلام في طرق غير مضاءة قد يقطعها بشر أو حيوانات يعرضون حياتهم وحياة الآخرين للخطر. أما آفة هذا العصر فتتمثل في الهاتف المحمول وغيره من وسائل الترفيه المرئية في بعض السيارات؛ التي تشغل السائقين عن الطريق، فيتسببون في الحوادث. في كل ما تقدم لم تكن السرعة السبب، ولكنها الحماقة التي أعيت من يداويها.