اكتفى المشرع العراقي ( بفقرة واحدة في مادة واحدة ) في الإشارة إلى حرية الصحافة والإعلام والطباعة بقوله فــــــــــي المادة ( 38 ) :- ( تكفل الدولة ، بما لايخل بالنظام العام والآداب :- أولا :- حرية التعبير عن الــــرأي بكل الوسائل . ثانيا :- حري
اكتفى المشرع العراقي ( بفقرة واحدة في مادة واحدة ) في الإشارة إلى حرية الصحافة والإعلام والطباعة بقوله فــــــــــي المادة ( 38 ) :- ( تكفل الدولة ، بما لايخل بالنظام العام والآداب :- أولا :- حرية التعبير عن الــــرأي بكل الوسائل . ثانيا :- حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر . ثالثا ... . وتنظم بقانون . ) .
أما الدستور المصري الجديد فإنه عالج ذلك في مادتين بطريقة أكثر تفصيلا مع الأخذ بضمانات هامة جدا لها ، إضافة إلى أفراد حق الاطلاع على المعلومات بمادة ثالثة .
فنصت المادة ( 48 ) منه :- ( حرية الصحافة والطباعة وسائر وسائل الإعلام مكفولة ، وتؤدي رسالتها بحرية واستقلال لخدمة المجتمع والتعبير عن اتجاهات الرأي العام والإسهام في تكوينه وتوجيهه ، في إطار المقومات الأساسية للدولة والمجتمع والحفاظ على الحريات والواجبات العامة ، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومقتضيات الأمن القومي ، ويحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي . والرقابة على ما تنشره وسائل الإعلام محظورة ، ويجوز استثناءً أن تفرض عليها رقابة محددة في زمن الحرب أو التعبئة العامة . )
وأفرد ( إصدار الصحف وتملكها ) في مادة مستقلة هي المادة ( 49 ) التي نصت :- ( حرية إصدار الصحف وتملكها ، بجميع أنواعها ، مكفولة ، بمجرد الأخطار لكل شخص مصري طبيعي أو اعتباري . وينظم القانون إنشاء محطات البث الإذاعي والتلفزيوني ووسائط الإعلام الرقمي وغيرها ).
وسنحاول تلمس الفرق بين الدستورين في معالجة ( حريات الصحافة والإعلام والطباعة ) في ما يأتي :-
1- إن الدستور العراقي ذكر تلك الحريات باختصار مخل ، في ست كلمات فقط ، بطريقة إسقاط الفرض ، فنص على حرية الصحافة والطباعة والإعلام بأسمائها ، ولاشيء غير ذلك ، دون أن يضع لها أية ضمانات ، في حين ذكرها الدستور المصري بطريقة أكثر تفصيلا وأكثر اهتماما ، ووضع لها ضمانات هامة .
2- قيد الدستور العراقي حرية الصحافة والإعلام والطباعة بقيدين هما ( النظام العام والآداب ) وهما قيدان فضفاضان واسعان ، لم يستطيع احد - لحد الآن - من وضع مفهوم محدد لهما ، مما يعرض تلك الحريات الهامة لخطر مصادرتها باسم النظام العام والآداب ، أما الدستور المصري فانه وضع – هو الآخر - قيودا على تلك الحريات هي :- أن تؤدي رسالتها :- 1- في إطار المقومات الأساسية للدولة والمجتمع . 2- وفي إطار الحفاظ على الحريات والواجبات العامة . 3- وفي إطار احترام الحياة الخاصة للمواطنين . 4- وفي إطار مقتضيات الأمن القومي . ويبدو واضحا أن الدستورين وضعا قيودا فضفاضة على تلك الحريات ، لكن الدستور المصري كان أكثر وضوحا وتفصيلا لتلك القيود مما يخفف من وطأتها ، ويجعلها تحديا اقل حدة وخطورة على تلك الحريات ، من القيدين الفضفاضين العائمين اللذين تبناهما الدستور العراقي.
3- ورغم أن الدستور المصري وضع قيودا على حرية الصحافة والإعلام والطباعة لكنه ضمنها - استعمال تلك القيود ضدها من السلطة التشريعية أو التنفيذية أو غيرها من مؤسسات الدولة - عن طريق منع وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي . في حين لم يكلف المشرع الدستوري العراقي نفسه وضع أية ضمانة لحماية تلك الحريات البالغة الأهمية فتركها عرضة لاستعمال القيدين الفضفاضين ( النظام العام والآداب ) ضدها ، من أي سلطة أو مؤسسة عامة عسكرية أو مدنية .
4- ولم يكتف الدستور المصري بضمانة ( منع وقف أو غلق أو مصادرة وسائل الإعلام والصحافة والطباعة إلا عن طريق حكم قضائي ) ،ولكنه أضاف ضمانة أخرى بالغة الأهمية هي ( منعه الرقابة على ما تنشره وسائل الإعلام )، فذلك محظور على الجميع ، فليس للحكومة ولا للسلطة التشريعية ولا لرئيس الجمهورية ولا للقضاء ولا لأي مؤسسة عامة ولا للجماعات المختلفة ،سواء أكانت دينية أو عرقية أو سياسية .. الخ أن تضع رقابة على ما تنشره وسائل الإعلام والصحافة مطلقا . ولم ينص الدستور العراقي على مثل ذلك ، فترك حرية النشر والطباعة والإعلام في مهب الريح ولا مزحة الكتل السياسية في مجلس النواب ، التي لا يستبعد أن تجيز وضع رقابات على ما ينشر ، أو تترك هذا الأمر سائبا ، فتستغله السلطة التنفيذية فتضع رقابات على النشر .
5- ورغم أن المشرع الدستوري العراقي – لا خلف الله عليه – لم يضع أية ضمانة لحريات الصحافة والإعلام والنشر ، وقيدها بقيدين فضفاضين ، ولكنه لم يكتف بذلك ، فأصر على النص بوجوب تنظيمها بقانون ، وهذا ( أي القانون المنظم ) لا يستبعد أن ينقلب إلى ( قانون مقيد ) فيضع قيودا كثيرة على تلك الحريات فيفرغها من محتواها ، ما دام الدستور تركها كحريات سائبة بلا ضمانات دستورية . أما الدستور المصري فكان أكثر توفيقا ،فلم ينص على أن تنظم تلك الحريات بقانون ، لكنه نص على تنظيم ( إنشاء ) محطات البث الإذاعي والتلفزيوني ووسائط الإعلام الرقمي وغيرها بقانون ، فهو يريد تنظيم ( إنشائها ) فقط ، وقت الإنشاء ، ولكنه لم ينص على أن ينظم غير ( الإنشاء ) بقانون ، أي أن القانون الذي يدعو إليه الدستور المصري هو قانون ينظم ( إنشاء ) محطات البث ووسائط الإعلام الرقمي ، ولا شأن له بغير تنظيم ( الإنشاء ) ، فلا يضع رقابات على ما تنشره أو تذيعه تلك الوسائل الإعلامية ولا حق له في التدخل في شؤونها ولا علاقة له بما بعد الإنشاء مطلقا . وذلك واحد من مظاهر الدقة البالغة في صياغة الدستور المصري ، بخلاف الصياغات الركيكة والمتهالكة للدستور العراقي .
6- ولم يقف تميز ورجاحة الدستور المصري على دستورنا العراقي عند هذا الحد بل تعداه إلى أن الدستور المصري نص على ضمانتين هامتين أخريين ،هما وصفه لوسائل الإعلام والصحافة والطباعة بأنها ( حرة ومستقلة ) ،فهي تؤدي رسالتها ( بحرية ثم باستقلال ) ، ولا يخفى كم هو رائع ومهم إضفاء وصف الاستقلال على وسائل الإعلام والصحافة والطباعة ، التي لم يلتفت اليها الدستور العراقي مطلقا .
7- لم يكلف الدستور العراقي نفسه التعرض لحق أو حرية إصدار الصحف أو تملكها ، فأهمل الموضوع بالكامل ، فترك الأمر سائبا في مهب الريح ، و خاضعا لاجتهاد السادة المشرعين ، ولإرادات الكتل السياسية ، أما الدستور المصري فإنه – في ما يبدو - يدرك جيدا أهمية إصدار الصحف لبناء دولة القانون والمؤسسات - لذا عالجها وأفرد لها مادة مستقلة ، ونظمها بطريقة رائعة ، فأطلق الحق في إصدار الصحف وتملكها ، بكل أنواعها ، ولم يكتف بذلك بل قال إن إصدار الصحف وتملكها للمصريين لا يتطلب إذن من احد نهائيا ، بل إن للمصري – سواء كان شخصا طبيعيا أو شخصا اعتباريا ،كمنظمات المجتمع المدني والشركات – أن يصدر صحفا أو يتملك الصحف ، بمجرد إخطار أو إشعار الجهة الرسمية المختصة ، التي ليس لها على الصحيفة سوى تأشيرها في سجلاتها فقط ، ولا حق لها عليها بعد ذلك بأي شيء ، فلا رقابة لها عليها ، ولا تستطيع وقفها أو غلقها أو مصادرتها بأي حال من الأحوال ، ولا يستطيع البرلمان ولا أي جهة كانت وضع مثل تلك القيود على إصدار الصحف وتملكها .
8- وفي النهاية فإن الدستور المصري أسند حريات الصحافة والإعلام والطباعة بأهم مقوم ومقوي لها هو ( حرية الاطلاع على المعلومات ) الذي نص عليه بطريقة محكمة ، وصياغة دقيقة متميزة ، في المادة ( 47 ) منه ( ) ، آخذا به وفق أفضل المعايير والممارسات الدولية ، أما الدستور العراقي فلم ينص على هذا الحق وتركه لإرادة ورأي إخوتنا ممثلي الشعب الذين لم ينتخب الشعب منهم سوى ( 14 ) فقط ، والذين أصبحوا غير قادرين على التشريع إلا بإذن من الحكومة ، ولا أظن أن حكومتنا الحالية ولا الحكومات التي ستليها ستسمح بإعطائنا حق الاطلاع على فشلها وفضائحها وفسادها ، لأنها حكومات طوائف ومؤامرات وهذه لا تؤمن عادة لا بالشفافية ولا بالمكاشفة ولا بالمشاركة السياسية للمواطنين في صنع القرار السياسي ،وبالتالي فليس له شأن ولا حق في الاطلاع على أوراق ووثائق ومستندات الحكومة.
هنيئا لكم أيها المصريون مواضع التميز والرقي في دستوركم الجديد ، الذي لا أشك في أنكم قادرون على إصلاح العيوب فيه ليكون منارا تهتدي به كل بلدان الشرق الأوسط ، وإني أغبطكم فأنتم دائما تسبقوننا في كل مواضع العلم والخير لأنكم شعب طيب وشجاع ، وتعساً وخزياً لكل من يريد الرجوع بالعراقيين إلى عهود تقييد الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان والاعتداء على حريات الصحافة والإعلام والطباعة .
- نصت المادة ( 47 ) من الدستور المصري الجديد:- ( الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والأرقام والوثائق والإفصاح عنها وتداولها حق تكفله الدولة لكل مواطن ، بما لا يمس حرمة الحياة الخاصة ، وحقوق الآخرين ، ولا يتعارض مع الأمن القومي . وينظم القانون قواعد إيداع الوثائق العامة وحفظها ، وطريقة الحصول على المعلومات ، والتظلم من رفض إعطائها ، وما قد يترتب على هذا الرفض مـــن مساءلة . )
*رئيس هيئة النزاهة السابق