يولد المرء حزيناً،
يعيش حزيناً،
يموت حزيناً،
كل ما بين مراحله المتعاقبة هو إدعاء السعادة.
تلفيق ما يحدث، بل تزويره، وفق ما يسعدنا مهما كان مدعاة للشقاء والكآبة.
لم يكن الحزن، مرضاً شافياً، مهما كان المرء طبيب نفسه، كما اقترح علينا راينر ماريا ريلكه.
الحزن هذا الغريب الذي يغيرنا، مثل ضيف يدخل البيت، ليتغير البيت، قال ريلكه.
.. ويمر الزمن علينا ونحن لسنا سوى مترجمين: "ترجم أحلامه إلى واقع" و"ترجم أحاسيسه" هكذا يقال دوماً.. حتى الكتاب إنما "يترجمون" نصاً آخر، غامضاً، يقبع هناك، في مكان ما من الروح، وهكذا تجيء الترجمات سيئة أو جيدة، وبأشكال متعددة، لكنها مترجمة، طبعاً، والترجمة هي قبلة من وراء الزجاج، كما قال شيركو بيكه س.
هل جاءت كل كتابة الكتاب وقصائد الشعراء ولوحات الرسامين والروايات – تلك التي رأينا فيها أنفسنا شخصيات قاتلة أو قتيلة – على شكل ترجمات، إذن؟
رحل عام وحل عام وحزننا معتّق، مخمّر ومقطّر وفي طبعات جديدة، منقحة ومزيدة، أغلفته ملونة وجوهره أسود، ولنقل: رماديّ، لنجاري المتفائلين.
كانوا ينحتون صخورهم، بجلدً يحسدون عليه، ليتركوها لنا شاخصة وعالية، على شكل مسلات عظمى وجداريات سامية وأكواب جافة، مكسورة، وملاحم طويلة كان أبطالها يتفرعون مثل غصون إلهية يفترشونها ويتكئون عليها ويبحرون بها بحثاً عن... ماذا؟
أكانوا يبحثون عنّا؟
كانوا يرسمون الجدران والكهوف وجذوع الأشجار ليستدلوا على كلمة ما، تدرأ الشر وتستنزل المطر ويكتبون بمساميرهم تلك الروايات التي تخترق العالم وتنزل إلى العالم السفلي.
ماذا كانوا يريدون؟
هل كانوا "يترجمون" أحلامهم كي نقرأها بعد خمسة آلاف عام ونأسى لهم، أو نعجب بهم، أو نحسدهم على خصوبة المخيلة ومهارة الأداء؟
متى كان الإنسان سعيداً، إذن؟
عندما كان في الكهف؟
عندما شيد الحضارة؟
عندما غزا العالم العالم؟
عندما طار إلى الفضاء وتمشّى على سطح القمر؟
عندما حفر بين صخور المريخ بحثاً عن قطرة ماء؟
ثم ماذا؟
إن العالم يزداد شقاء، والأرض مصابة بالحمى، وأمريكا – حتى أمريكا – على حافة الهاوية.
لم يكن هذا، بالتأكيد، من فعل إله عدواني يكره مخلوقاته يكيد لها ويمتحنها وهو الأكثر علماً بنتيجة الامتحان. إنه فعل البشر، أو من يدخل في صنفهم، لأن الطيبين لا يحتاجون الدخول في الامتحان، والقوانين وضعت في العالم لحمايته من أشرار العالم الذين هم من وضعوا قوانينه المعاصرة.
هكذا مضى العام القديم وأتى الجديد، عليّ على الأقل، وأنا حر في "ترجمة" مشاعري، وأنتم أحرار أيضاً عندما تتهموني بالتشاؤم.
لا أنسى صورة تلك المرأة مع بناتها اللواتي افترشن باحة بيت الطين المنهار إثر أمطار بغداد الأخيرة، وأنا على غاية العجز والبكاء.
معذرة، يا صاحبي، الذي طلب مني أن أبتسم لعدسة الكاميرا، ليلة العام الجديد، مثل ذاك الصحفي الذي طلب من يوهان مورتز، بطل "الساعة الخامسة والعشرون" بعد أن مر بتجربة مئة وستة سجون.
معذرة، يا صاحبي، لا أستطيع أن أبتسم حتى لو كانت المناسبة هي أن نحتفل بالعام الجديد.
لست حزيناً، يا صاحبي، إنما هو شيء آخر، بالضبط.. شيء قد نجد له ترجمته السيئة فنقول: إنه الحزن.
أحزان العام الجديد
[post-views]
نشر في: 14 يناير, 2013: 08:00 م