TOP

جريدة المدى > عام > "هبة" *

"هبة" *

نشر في: 15 يناير, 2013: 08:00 م

هبة . . ،   فسيلة كان السواد في العراق – والسواد هو الكثافة العميقة لمساحات النخيل – يرعاها بروح زرقته المائية، وخبرة طينه التي رفعها الوفاء إلى أفق لا يراه أحد إلا بما يقدمه من جمال ونشوة تطرب الحجر. وهي الفسيلة الريانة بوردية تؤج

هبة . . ،

  فسيلة كان السواد في العراق – والسواد هو الكثافة العميقة لمساحات النخيل – يرعاها بروح زرقته المائية، وخبرة طينه التي رفعها الوفاء إلى أفق لا يراه أحد إلا بما يقدمه من جمال ونشوة تطرب الحجر.

وهي الفسيلة الريانة بوردية تؤجج في الفجر جمالا يتجدد في كل فجر ليجعل الفجر فجرا يكثف أعياداً ، وفرح أعراس تضيء نجوم العافية في كل الطرقات وتشرق بأهلّة الحناء على خشب أبواب يتحول فيها وبها ومعها إلى طاقة حي تحتضن العالم.

          والشام التي اختصتها مشيئة الدلال بياسمين يشيع نسيمه وبياضه وعطره في جميع الأرجاء حتى آخر الدهشة التي تأخذ – بسماحة العبق – يد حشود الظلال إلى عتبات بيوت تضيق وراءها الحارات وتغلق نفسها حتى يأخذ النعاس نعاسه إلى آخر الشذر والعذوبة.

كل ما يغري الورد بالمنام ينام هناك ليقتنص يقظة يداوم فيها على إغداق الطراوة والندى وكل ما جادت به مشيئة الجمال على الشام من بنفسجية كي يكون وفاؤها للحياة ولهذه الفسيلة أكثر عمقا، واشد عذوبة، وأطيب عافية.

......... وشبّت الفسيلة الصغيرة  - بلهجة لم تشبها لكنة – تغرقها وردية الشام السمراء.

تمشي ...، تروح وتجيء كطوق جوري في جيد دمشق، إنها الآن في عمر (13 سنة إلا ثلاثة أشهر) وتنتمي بعمر - يشارف على اختمار سنوات الخبرة الطويلة – إلى لحظة المحبة التي غيبت كل شيء،

   كل المدن ،

      كل المحطات .... كل المسافات إلا تلك الخطوات وتلك الايام وذلك الجمال والدفء والالفة والامان والرعاية التي كانت مناخات وبيوت وناس الشام تسكبها على الأرض والسماء وقبل كل شيء أرواح الضيوف الذين ضاقت بهم وبأهلهم الحياة والأرض .

كل الذين ليس لهم بلاد كانت الشام بلادهم ...

كل شارع كان في الشام سماء مفتوحة على بدايات الفرح وأجنحة ظلت تطير بأحبابها حتى نهايات آفاق تبدأ بقراءة اسم الدفء والحب على بيوت الذين جاؤوها من كل حزن وتعب ، ووطن أغلق بوجههم حتى نسمة الهواء .

كانت دمشق تأخذ (هبة) في كل صباح إلى صباح معافى ومختلف عن صباحاتها الطالعة من حدائق لم تعرف من قبل.... تفتح غنج بساتينها الذي في تنفس وريق (هبة) وهي تنمو وتكبر على مرآى من النخل والورد والنسيم وهديل اليمام وذهب العمر الذي يغرق في قمر يرتفع من أعماق قاسيون لينزل بعد ذلك درجة درجة على سلم الغيم والترافة نحو شبابيك فقراء اختاروا ذروة الأعالي كي يقيموا مع النسور أعراس نيرانهم على حرير أنواره التي يوشّونها ويرفعونها أعلاما تسير بخيول الكرامة إلى سماوات العراق، ...... نعمة اثر نعمة وهبة ترفع هبة تتلفت الى حدود العرب وتحزن لأنهم لم يكترثوا للأرض التي احتضنتهم ودافعت حتى الرمق الأخير عن وجودهم المهدد بأخطار لم تشرّف الوجود .

من منا لم تقدم له الشام دفئا وافرا

وحضنا واسعا

وقلبا وفيا

وحنانا ليس له نظير

وعمرا لا يضاهى تكونت في شوارعه ومقاهيه وبيوته ذاكرتنا المفتوحة اليوم على شتى صنوف الضياع والفجيعة وخسارات كل شيء .

لم يلتفت العرب وهم يغادرون الشام حتى إلى تراب قبور ذويهم التي ظلت الشام ترعاها بكل ما لديها من ماء وورد .

أنا في ظل وارتفاع قامة هبة انتمي إلى محبة الشام ، والى ترابها، وتاريخ حجارتها المقدس وطيبة ناسها التي لا تكرر . . .

أسير وبكاء يشبه العويل يندلع عاصفا شرسا في قلبي على هذه البلاد الوحيدة، المعزولة، والحزينة حتى الموت هذه الأيام.

هذه البلاد التي تشير إلى بهاء وحكمة بداياتها وعظمة من أوجدها كالوجدان الأبيض، كملح الخبز والوفاء، كيد المطر والسحاب السخية.

أنا لدي في الشام حبٌّ أخاف على حرف الـ ( هاء ) الذي به  من الورد والعيون .

لدي في الشام عمر وذاكرة لا أريد لهما النسيان ... .. ولدي فيها قبور أحبتي، الأمام هادي العلوي

والجواهري ومصطفى جمال الدين والقديسة عزيزة الزيادي (أم علي) وعبد الوهاب البياتي الذي يجاور القطب الأكبر محيي الدين بن عربي، والمناضل محسن عليوي و ..  و.. و  .....  إلى كل ما يريده النخل ويشتهيه من طل وكواكب .

أنا هنا لا أجد إنسانيتي ووجودي الحق، إلا في محبة تراب وسماء الشام، وتذكّر أصدقائي وطيبة جيراني الذين لم يبخلوا بمحبة ومروءة وكرم ...... يملؤني بياض وشموع وأصوات جارتي الكنيسة التي أشرقت عليّ فيها ذات حب عظيم العذراء مريم.

إنني اسمع طرقاتهم على بابي وهم يسألون عني ويتفقدوني ويستعلمون أن كنت بحاجة إلى شيء .

مذاق خبز الشام هو مذاق عمري وحياتي وطيبة العراق .

في أحلك الظروف لم تغلق الشام بابها بوجه احد ، لماذا إذن نغلق – ودون وفاء – أبوابنا وذاكرتنا ومواقفنا في وجهها وهي وحيدة اليوم ؟

لم نكن فيها يوما غرباء ولا خائفين .......

لماذا إذن نتركها غريبة وخائفة في كل هذا الزمهرير وكل هذا الشتاء الطويل...؟ الطويل

 

*هبة صبية عراقية ولدت في الشام وهي ابنة الاعلامي العراقي عمر العلوي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

السحب المطرية تستعد لاقتحام العراق والأنواء تحذّر

استدعاء قائد حشد الأنبار للتحقيق بالتسجيلات الصوتية المسربة

تقرير فرنسي يتحدث عن مصير الحشد الشعبي و"إصرار إيراني" مقابل رسالة ترامب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

مدخل لدراسة الوعي

مقالات ذات صلة

مدخل لدراسة الوعي
عام

مدخل لدراسة الوعي

لطفية الدليمي تحتل موضوعة أصل الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram