TOP

جريدة المدى > عام > تمثّلات الرواية العربية للآخر..العوامل المؤثرة فيها

تمثّلات الرواية العربية للآخر..العوامل المؤثرة فيها

نشر في: 15 يناير, 2013: 08:00 م

كنّا قد تعرضنا في مقال سابق لأهم سبل الاتصال التي قادت إلى تعرف الروائيين العرب الى الآخر الغربي مما قادهم إلى تمثُّل ذلك الآخر في رواياتهم. لكن هذا لم يكن ليتحقق بالأشكال التي تمت وتتم دون تأثير عوامل فيهم وفي تعرّفهم هذا وهي موضوع مقالنا الحالي. أه

كنّا قد تعرضنا في مقال سابق لأهم سبل الاتصال التي قادت إلى تعرف الروائيين العرب الى الآخر الغربي مما قادهم إلى تمثُّل ذلك الآخر في رواياتهم. لكن هذا لم يكن ليتحقق بالأشكال التي تمت وتتم دون تأثير عوامل فيهم وفي تعرّفهم هذا وهي موضوع مقالنا الحالي. أهم العوامل، إذن، التي لعبت أدوارها في كتابة معالجة الرواية العربية لموضوعة (الشرق والغرب) أو (نحن والآخر) ووفي رسم صور الغرب والغربيين، بالإضافة إلى ما لعبته سبل الاتصال السابقة نفسها من تأثيرات، فهي برأينا ما يأتي:

     أولاً: الاستعمار والوجود الأجنبي وما يتصل به من وجود عسكري، أمريكي بشكل خاص، في البلاد العربية، ومن قوى دعم مباشرة وغير مباشرة لأنظمة عربية وغير عربية. ويمكن عدّ هذا المؤثر الأقدم في الإنسان العربي، بعد الاتصالات الأولى في القرن التاسع. فمعروف تماماً ما كان لهذا ولا يزال من تأثير في الإنسان العربي، وهو التأثير الذي أدى إلى أن يصير الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً صورة العدو له. وإذا ما كانت مثل هذه الصورة للغرب تتضح أكثر بل تتضخم في أوقات الأزمات والحروب، وهي على أية حال شبه دائمة، فإن هذا الغرب يبقى دائماً في هذه الصورة، وإنْ بشكل أو بآخر. وإذا ما كانت هي هكذا في أذهان والعرب الاعتياديين ومؤثرة فيهم، من خلال ذلك، فإنه لَمِن الطبيعي أن يلعب ذلك تأثيره في تكوين صورة ورؤيا الغرب في ذهن الروائي، كما هو في ذهن أي أديب. ومن الطبيعي أن يمارس هذا العامل، في النتيجة وبالضرورة، تأثيره انفعالياً وفكرياً، في كتابة الروائي ومعالجاته، حتى والرواية، كما نعرف، هي أكثر الفنون أو الأجناس الأدبية تطلباً للموضوعية والحيادية والتعددية، وأبعدها عن العاطفية والانفعال. ومن الروايات التي نرى أنها تمثلت شيئاً من هذا رواية مهدي عيسى الصقر في "الشاهدة والزنجي"، ورواية ميسلون هادي "الحدود البرية".

    ثانياً: الصراع العربي الإسرائيلي، فمرة أخرى، كما يؤثر هذا العامل، تقليدياً وبشكل عميق، في العربي الاعتيادي ليقوده إلى تكوين الأفكار ورسم الصور واتخاذ المواقف، وربما الأفعال، من أي بلد أو نظام أو دولة أو شعب وفقاً لمواقفها من هذه القضية، فإن الروائي لا يبتعد كثيراً عن هذا غالباً. لقد كان لهذا العامل تأثيره الكبير في رؤية الكُتّاب للغرب والغربيين، ولا سيما الأمريكيين وإلى حد ما الإنكليز، إذ تبنوا، نتيجة له، مواقف فكرية مسبقة، وكثيراً ما رفضوا، كما يرفض الإنسان العربي العادي، تجاوزها حتى في تعاملهم، في الكثير من الأحيان، مع أفراد غربيين عاديين. لقد حمّلوا ذلك الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً، في مساندتهما لإسرائيل في صراعها وخلافاتها مع العرب وفي اغتصابها للأراضي العربية، غالبية ما لحق بالعرب من أذى ومآس ونكبات. وإذا لم يكن لمثل هذا العامل أن يظهر تأثيره مباشرةً في التجربة الروائية، فإنه برأينا كان من الطبيعي أن يترك مثل هذا التأثير، في وقت ما، في غالبية الكتاب وبما ينعكس بهذه الصورة أو تلك في أعمالهم الروائية. فمن الأعمال التي ظهر تأثير ذلك فيها "الثلج الأسود" لمحمد أزوقة، وإلى حد ما "تشرق غرباً" لليلى الأطرش، و"الميراث" لسحر خليفة، و"نورا" لناجي التكريتي.

    ثالثاً: الخلفيات الفكرية والسياسية والاجتماعية والعقائدية، وتعلقاً بذلك القومية والدينية، للروائيين، وهو العامل الذي كان له تأثيره في رؤى الكُتّاب ومواقفهم المسبّقة أيضاً، الموجَّهة إلى الغرب والغربيين. لقد قاد تأثير هذا العامل، في النتيجة، إلى أن ينطلق الكاتب في كتابة عمله، وضمناً في رسم الشخصيات الغربية فيه، من نيّات مسبقة لأن تكون هذه الشخصيات بالأشكال التي يريدها أن تكون عليها، وبما يتلاءم مع خلفياته الدينية أو الفكرية أو السياسية، لا مع واقعها أو أصولها التي نفترض أن تكون لها. ولكننا لا ننفي أن تتطابق هذه الصورة التي يريد الكاتب لها أنت تكون أحياناً مع صورة الواقع. فمن الطبيعي في النهاية أن يسعى معظم جهدهم إلى أن يرسموا نماذجهم الغربية المتخيلة، التي تتلاءم مع ما أفكارهم أو معتقداتهم، قريبةً من الواقع لكي يحقق الإقناع. ولعل أكثر ما انعكس هذا على النظرة إلى المرأة والجنس والعلاقات ما بين الجنسين، وإلى القيم المختلقة للعالمين المتباينين، بغض النظر عن اختلاف الكاتب أو اتفاقه مع وجهات نظر الآخر، وهو ما يبدو لنا في روايات، مثل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"ليلة في القطار" لعيسى الناعوري، و"يوميات علي سعيد" لعدنان روؤف، و"عزف في مكان صاخب" لعلي خيون.

    رابعاً: وسائل الاتصال والثقافة والإعلام، فقد كان طبيعياً أن يلعب الإعلام، إلى جانب القراءة والثقافة ممثَّلَةً بالمنشور المكتوب والمسموع والمصور أو المرئي، دوره الفاعل في الصورة التي يكونها الكثير من العرب، وضمنهم بعض الأدباء، عن الغربيين والأمريكيين.

    وتتوزع هذه الوسائل، في كونها عاملاً مؤثراً، إلى قسمين، الأول غالبية وسائل الإعلام العربية ووسائل إعلام الدول الاشتراكية التي كانت تصور الغرب الرأسمالي، خصوصاً أمريكا، بصورة الوحش الطامع والإمبريالي. ولنا أن نتوقع أن تلعب هذه دوراً في الصورة السلبية أو القبيحة للغربي، وخصوصاً مرة أخرى الأمريكي، في أذهان العرب، ومنهم بعض الأدباء. أما القسم الثاني من هذه الوسائل، فهي الغربية بشكل خاص، وفي مقدمتها الأمريكية، وهي كانت تصور الغرب بصورة جنة الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد. ومن المهم أن نشير إلى أن في طليعة هذه الوسائل في ممارسة التأثير في الإنسان العربي كانت ولا زالت السينما الأمريكية، فهي عموماً كانت وراء صورة الأمريكي الساحر مع ملاحظة أن هذه الصورة لم تظهر في الأدب العربي، الروائي وغير الروائي، بشكل مباشر أو ملفت للنظر. ولعل هذا العامل، وإذا ما ألحقنا به التعرّف على الغرب عبر الطرق غير المباشرة كالسماع، هو أكثر العوامل تشويهاً للصورة وإبعادا للموضوعية في تعامل الكاتب مع العرب والغربيين إذا ما أردنا لها أن تكون ممثلة للواقع. وهي مما يمكن أن نطبق عليها رؤية إدوراد سعيد، التي مرت بنا، ولكن بشكل معكوس، بمعنى أن جزءاً من الخطاب الروائي العربي، وكما هو فعلاً جزء غير قليل من الخطاب الثقافي العربي بشكل عام، إنما يصور الغرب والغربيين كما يريد الروائي لا كما هي حقيقتهما. وأكثر ما ظهر من نتائج غير مقنعة أو غير موضوعيه نتيجة لهذا العامل كان في رسم المرأة الغربية، فكانت عند الكثير من الروائيين، غير ملتزمة بقيم الشرف كما يراها العربي، بل متحللة وربما ساقطة، أو على الأقل سهلة المنال لمن يريد. وغالبية هؤلاء الذين يريدونها وينالونها في الأعمال الروائية والقصصية هم أبطالها العرب. ولا أظننا بمبالغين إذا ما قلنا إن من النادر جداً أن نجد، ضمن الشخصيات النسوية الغربية في تلك الأعمال الروائية، امرأة غربية سوية أو متزنة أو شريفة، حتى حين تكون زوجةً عربي مثلاً. ومن الأعمال الروائية التي عكست ذلك أو بعضه "ليلة في القطار"، و"يوميات علي سعيد"، و"الثلج الأسود"، و"العزف في مكان صاخب"، و"موسم الهجرة إلى الشمال" طبعاً.

    خامساً: المعايشة والاختلاط والعلاقات التي يقيمها الكاتب مع غربيين، كأن تكون نتيجة دراسته في الغرب أو هجرته إليه، وهو الأمر الذي كان غالباً وراء الجانب الموضوعي- غير المسبق وغير الانفعالي أو التعصبي- في تعامل بعض الكتاب مع الغرب والشخصية الغربية، كما يتضح ذلك مثلاً، بدرجات مختلفة، في "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"قنديل أم هاشم"  ليحيى حقي، و"السفينة" لجبرا إبراهيم جبرا، و"الحي اللاتيني" ليوسف إدريس، و"الثلج الأسود" لمحمد أزوقة.

    وإذا كان من الطبيعي لغالبية هذه العوامل أو المؤثرات أن تلعب أدواراً في رسم الصورة السلبية للغربي، فإننا يجب أن لا نستبعد المؤثر الحضاري- الإنساني الذي قد تنطوي عليه بدرجات مختلفة المؤثرات السابقة نفسها أو تفرضه، مثل السفر إلى الغرب هجرةً أو للدراسة مما يلعب دوراً في ما يمكن أن نسميها الصورة الإنسانية الإيجابية للغربي، وكما سنراها في بعض الفصول القادمة من كتابنا.

    غير هذا كله، أو نتيجة له كله، يبقى أننا نرى أن أهم ما كان وراء الصورة العامة- إن كان بالإمكان تكوين صورة عامة- أو الصور التي رسمها وسيرسمها الروائيون للغرب والغربيين عاملان قد يضمان كل ما سبق. العامل الأول إحساس الفرد العربي والشرقي عموماً بالنقص الذي ربما يصعب علينا عموماً وعلى الروائي خصوصاً ان يعترف به، إزاء الغرب والغربي. والعامل الثاني وتعلقاً بالأول هو الرد الصريح أو الضمني على ما نشعر ويشعر الروائي به، بحق أو غير حق أو بكليهما، بأن الغرب والغربيين قد ألحقوه بنا من أذى. وهنا تحديداً تحضر أطروحة إدوارد سعيد لنرى أنها تنطبق، ولكن بشكل معاكس، كما قلنا، على رسم الكثير من العرب الشرقيين ومنهم الروائيون للغرب والغربيين، كما أرادوه أكثر منه كما هو حقيقةً. وهذا بالطبع لا يقتصر على الخطاب الروائي العربي بل على الخطاب العربي الثقافي والسياسي عموماً، مما أمثلته كثيرة في حياتنا العربية المعاصرة.

أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث*

كلية الآداب – جامعة بغداد

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

السحب المطرية تستعد لاقتحام العراق والأنواء تحذّر

استدعاء قائد حشد الأنبار للتحقيق بالتسجيلات الصوتية المسربة

تقرير فرنسي يتحدث عن مصير الحشد الشعبي و"إصرار إيراني" مقابل رسالة ترامب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

مدخل لدراسة الوعي

مقالات ذات صلة

مدخل لدراسة الوعي
عام

مدخل لدراسة الوعي

لطفية الدليمي تحتل موضوعة أصل الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram