عشت، في أيام طفولتي المبكرة، اكثر من عام في قرية وديعة بكل ما تحمله الوداعة من معنى. ناسها، أرضها، سماؤها، أطفالها، نساؤها شيوخها وشبابها، كلها تقطر وداعة وصفاء. حتى أبواب البيوت مفتوحة ليل نهار، لان قريتنا كانت رحمة من الله، حتى أن أهلها سمّوها "الرَحَمة". لا اذكر شيئا أخافنا، نحن أطفالها، غير لحظات عند الغروب كانت ترعبنا وتلّف القرية في صمت مخيف. انها اللحظة التي تزعق او "تنغط" بها "الططوة" في سماء القرية أو فوق واحد من بيوتها.
يقولون ان "الططوة" أصلها امرأة شريرة مسخها الخالق على شكل طائر قبيح ينشر الشر والخراب اينما حل. فان صاح في سماء قرية فهذا يعني ان كارثة ستحل باهلها. وان تقصّد بيتا معينا ليزعق فوق سطحه فان اهله سيتفرقون او سيرحلون مشتتين. لم يكن للناس سبيل لدرء شرها، حسب اعتقادهم، غير ان يطلبوا منا نحن الأطفال ان نصيح حين يعلو صوتها: سچين وملح .. سچين وملح، لندرء شرها ونطرد الشؤم.
بعد ان انتقل والدي المعلم وظيفيا الى بغداد، لم اعد اسمع بصوت "الططوة"، لكن الخوف منها ومن اسمها ظل كامنا في أعماق اللاشعور. نسيتها تماما، ولم اعد اتذكر حتى حكاياتها الى إن أتى اليوم الذي صارت به صفارات الإنذار تزعق "مبشرة" بقدوم الخراب والموت والدمار مع اندلاع حرب صدام ضد ايران. كنت في آنها بمدينة الثورة وصرت اسمع الناس المرعوبة تطلب من الفتيات الصغيرات ان يصحن "سچين وملح" كلما انطلقت صافرة إنذار او لاحت غارة جوية في الافق. من حينها صارت الطائرات الحربية، التي أراها او أسمع صوتها، "ططوة". وكذلك أغاني الحرب والبيانات الحربية والهوسات التي تساندها وقصائد الشعراء الشعبيين، كنت أراها "ططوات" تعط برائحة الشؤم وكنت اردد في قلبي "سچين وملح". اقول هذا معترفا باني وان كانت ترعبني "الططوة"، لكني لم أرها او اعرف شكلها، بل كنت أسمع صوتها فقط.
ويوم ولت الحرب وولى معها من اشعلها، نسيت من جديد شبح "الططوة" واستبشرت، مثل كل العراقيين، بقدوم الخير مع "التغيير الجديد". لم يخطر ببالي أبدا ان أرى "الططوة"، بشحمها ولحمها، الا قبل أيام حين اكتشفت انها جنس من البشر. ليس "الجنس الآخر" او "الجنس الثالث" بل انه جنس الططوة: جمع من السياسيين والسياسيات، الفايخين والفايخات، تحت ظلال المنطقة الخضراء يعلو زعيقهم وزعيقهن كلما حلت بالبلد أزمة تنذر بخراب اسود. ولمن يريد ان يعرفهم لا يحتاج غير ان يتنقل بين الفضائيات في ايام التظاهرات. فان سمع أحدكم صوتا ملعلعا من عضو هذه الكتلة او تلك وانقبضت نفسه، فليعلم انه سمع صوت "الططوة".
أحلم بتظاهرة لأطفال العراق تجوب الساحات والشوارع وهم يهتفون "سچين وملح"، فلعلنا نخلص وتخلص البلاد من نذر الشر والشؤم والفساد. آمين
سچين و ملح
[post-views]
نشر في: 18 يناير, 2013: 08:00 م
جميع التعليقات 1
نوار الحسيني
لايغير الله بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم . الشعب العراقي او لنقل غالبية الشعب من (الشيعه والسنه والاكراد ) هو مطمئن للاداء السياسي الحاصل بالبلد . اما الطبقه الواعيه المثقفه بالبلد توجهاتهم مختلفه دينيا و سياسيا واجتماعيا . هذه الخندقه الطائفيه التي تجدونه