TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > سچين و ملح

سچين و ملح

نشر في: 18 يناير, 2013: 08:00 م

عشت، في أيام طفولتي المبكرة، اكثر من عام في قرية وديعة بكل ما تحمله الوداعة من معنى. ناسها، أرضها، سماؤها، أطفالها، نساؤها شيوخها وشبابها، كلها تقطر وداعة وصفاء. حتى أبواب البيوت مفتوحة ليل نهار، لان قريتنا كانت رحمة من الله، حتى أن أهلها سمّوها "الرَحَمة". لا اذكر شيئا أخافنا، نحن أطفالها، غير لحظات عند الغروب كانت ترعبنا وتلّف القرية في صمت مخيف. انها اللحظة التي تزعق او "تنغط" بها "الططوة" في سماء القرية أو فوق واحد من بيوتها.
يقولون ان "الططوة" أصلها امرأة شريرة مسخها الخالق على شكل طائر قبيح ينشر الشر والخراب اينما حل. فان صاح في سماء قرية فهذا يعني ان كارثة ستحل باهلها. وان تقصّد بيتا معينا ليزعق فوق سطحه فان اهله سيتفرقون او سيرحلون مشتتين. لم يكن للناس سبيل لدرء شرها، حسب اعتقادهم، غير ان يطلبوا منا نحن الأطفال ان نصيح حين يعلو صوتها: سچين وملح .. سچين وملح، لندرء شرها ونطرد الشؤم.
بعد ان انتقل والدي المعلم وظيفيا الى بغداد، لم اعد اسمع بصوت "الططوة"، لكن الخوف منها ومن اسمها ظل كامنا في أعماق اللاشعور. نسيتها تماما، ولم اعد اتذكر حتى حكاياتها الى إن أتى اليوم الذي صارت به صفارات الإنذار تزعق "مبشرة" بقدوم الخراب والموت والدمار مع اندلاع حرب صدام ضد ايران. كنت في آنها بمدينة الثورة وصرت اسمع الناس المرعوبة تطلب من الفتيات الصغيرات ان يصحن "سچين وملح" كلما انطلقت صافرة إنذار او لاحت غارة جوية في الافق. من حينها صارت الطائرات الحربية، التي أراها او أسمع صوتها، "ططوة". وكذلك أغاني الحرب والبيانات الحربية والهوسات التي تساندها وقصائد الشعراء الشعبيين، كنت أراها "ططوات" تعط برائحة الشؤم وكنت اردد في قلبي "سچين وملح". اقول هذا معترفا باني وان كانت ترعبني "الططوة"، لكني لم أرها او اعرف شكلها، بل كنت أسمع صوتها فقط.
ويوم ولت الحرب وولى معها من اشعلها، نسيت من جديد شبح "الططوة" واستبشرت، مثل كل العراقيين، بقدوم الخير مع "التغيير الجديد". لم يخطر ببالي أبدا ان أرى "الططوة"، بشحمها ولحمها، الا قبل أيام حين اكتشفت انها جنس من البشر. ليس "الجنس الآخر" او "الجنس الثالث" بل انه جنس الططوة: جمع من السياسيين والسياسيات، الفايخين والفايخات، تحت ظلال المنطقة الخضراء يعلو زعيقهم وزعيقهن كلما حلت بالبلد أزمة تنذر بخراب اسود. ولمن يريد ان يعرفهم لا يحتاج غير ان يتنقل بين الفضائيات في ايام التظاهرات. فان سمع أحدكم صوتا ملعلعا من عضو هذه الكتلة او تلك وانقبضت نفسه، فليعلم انه سمع  صوت "الططوة".
أحلم بتظاهرة لأطفال العراق تجوب الساحات والشوارع وهم يهتفون "سچين وملح"، فلعلنا نخلص وتخلص البلاد من نذر الشر والشؤم والفساد. آمين

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. نوار الحسيني

    لايغير الله بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم . الشعب العراقي او لنقل غالبية الشعب من (الشيعه والسنه والاكراد ) هو مطمئن للاداء السياسي الحاصل بالبلد . اما الطبقه الواعيه المثقفه بالبلد توجهاتهم مختلفه دينيا و سياسيا واجتماعيا . هذه الخندقه الطائفيه التي تجدونه

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram