TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > في ذكرى رحيل غافن يانغ مؤلف كتاب "العودة الى الأهوار"..راحــــلٌ ما زال حـاضـــــــراً

في ذكرى رحيل غافن يانغ مؤلف كتاب "العودة الى الأهوار"..راحــــلٌ ما زال حـاضـــــــراً

نشر في: 18 يناير, 2013: 08:00 م

مرت يوم امس 18كانون  الثاني  الحالي الذكرى الثانية عشرة لوفاة الكاتب والمغامر الكبير، صديق الشعب العراقي، غافن يانغ عن عمر بلغ 72 عاما قضاها في الكتابة والترحال، كصحفي ومن ثم كمؤلف لمجموعة رائعة من الكتب عن مغامراته ورحلاته عبر القارات والم

مرت يوم امس 18كانون  الثاني  الحالي الذكرى الثانية عشرة لوفاة الكاتب والمغامر الكبير، صديق الشعب العراقي، غافن يانغ عن عمر بلغ 72 عاما قضاها في الكتابة والترحال، كصحفي ومن ثم كمؤلف لمجموعة رائعة من الكتب عن مغامراته ورحلاته عبر القارات والمناطق النائية.
كانت خصاله الشخصية، وبالاخص إمكاناته الجسدية ومظهره الجذاب وطوله الفارع، تؤهله لمهام ووظائف مختلفة في المجالات الحكومية والتمثيل الخارجي والتجارة، بل وأعمال التجسس في ظل حروب التجسس المستعرة بين الدول الكبرى في فترات المؤامرات والانقلابات في ذروة تصاعد حدة الحرب الباردة في الخمسينات. وقد اشترك بالفعل لفترة قصيرة في العمليات السرية التي ادت الى الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء الايراني المنتخب آنذاك محمد مصدق ونصبت شاه إيران عام 1953.
إلا أن الشاب ذا الروح الوثابة والمتمردة، والمتطلع الى المغامرة الشخصية، لم ترق له حياة الوظيفة والالتزام الجامد بقوالب العمل والتعاطي مع السكان والمواطنين المختلفين بروح التعالي والانعزال عن المحيط ووسائل التآمر والتسلط وإخفاء الحقائق وافتعال الأزمات وكل ما يمت لذلك بصلة. كما أن "لوثة" التمرد والسفر والمغامرة، امتزجت لديه بموهبة بارعة في الكتابة وحب جارف للتجوال والترحال في الاماكن الصعبة وغير المكتشفة، وقد ساعده ذلك في التخلص سريعا من علاقته بالوظيفة بما فيها عمله في شركة الشحن التي كان يعمل لديها في البصرة، وبالطبع من جهاز المخابرات البريطاني (MI6)  الذي أغواه وارتبط به لفترة وجيزة في بداية حياته المهنية.
لقد جرى التحول الدراماتيكي في شخصية غافن يانغ بعد ان التقى بالرحالة الكبير والمغامر و"مكتشف الاهوار" الاوروبي ويلفرد ثسيجر، الذي كانت سمعته آنذاك قد طغت في عالم الرحلات والمغامرات بعد قطعه صحراء الربع الخالي مشيا على الاقدام ذهابا وإيابا، والذي استوطن بعد عشقه للصحراء الجافة في اكثر مناطق العراق رطوبة: الأهوار العراقية.
فقد ثناه ثسيجر، عندما التقاه في منزل القنصل البريطاني في البصرة، عن مخيلته الجامحة الهادفة الى السفر عبر الصحراء على ظهور الجمال، ودعاه إن كان يودّ فعل شيء الى زيارة المستقعات السومرية التي كانت على مرمى حجر من مكان لقائهم.
فالأهوار كانت آنذاك طلسما مغريا بالاكتشاف وعالما غرائبيا بل وسحريا يحفّز لا المخيلة فحسب، بل العقل والبحث والعلوم وغيرها، ولم يكن يانغ مدركا لقيمة ذلك الجوار الجغرافي، إذ كانت مخيلته المراهقة ترنو بعيدا الى الصحارى الكبرى وليس الى مستنقعات قريبة حتى وإن كانت معزولة!
ولكنه وبفضل ذكائه الفطري، وفي الحظات الاولى لزيارة الأهوار، سرعان ما تأكد من خطأ رغبته في امتطاء الجمال عبر الصحراء، مقارنة بدهشة ركوب المشاحيف والتجوال في العوالم السحرية للهور، والتفاعل مع معدان الهور على سجيتهم غير الملوثة بخداع التمدن والتملق والمظاهر المزيفة، والمجاملات الخادعة في أروقة العمل في ميناء البصرة والأندية البريطانية، وأماكن التجمع الأخرى للارستقراطيين والتجار، الذين يقدرّون زبائنهم حسب قيمة الربح المحتمل من الصفقات التي يعقدونها معهم. لقد كان ذلك تحولا رائعا في شخصية الرجل جلب له سعادة شخصية، وفتح آفاقا أرحب لموهبته الأدبية، فبرع في كتابة أدب الرحلات، وقد خلّد في أحد كتبه الأهوار العراقية وشخصياتها المميزة، وأضاء جوانب محببة من عزلتها، ومنابع الجمال فيها وصفاء مكنوناتها، وعالمها الفسيح، خاصة لأولئك النجباء الباحثين في أسرار الحياة والكون والانثروبولجيا والتنوع وما شابه. بالنسبة لي كان غافن يانغ واحدا من أبطالي في الحياة، ويحزنني أنني لم ألتقه قبل موته. فسنوات المعارضة للنظام السابق، التي ترجمت خلالها كتابه، كانت قاسية والحركة محدودة والسفر لم يكن متاحا لأمثالي بسهولة، سواء لضيق اليد او لضيق الفضاء الحر الذي ملأه جواسيس النظام السابق.
إن كتابه "العودة الى الأهوار" أعاد العراق إليّ في المنافي البعيدة وعشت معه ساعات وأياما، بل شهورا وسنوات وما زلت أعيد قراءته بمتعة متجددة.
هذا "الجاسوس" الشاب الذي اختار أن يترك مهنة التجسس ومغامراتها ليصبح معيديا يغامر بحياته بين المعدان و القصب والجواميس والملاريا والبعوض في المستنقعات، في إعادة صياغة لحياة متمردة استقرت على سجيتها الانسانية ومنحت هذا الحب الكبير للمعدان والاهوار.
وفي ذكرى رحيله أنقل في أدناه مقدمة الطبعة الخاصة لكتابه "العودة الى الأهوار" التي نشرتها مشكورة مؤسسة "المدى" بأكثر من طبعة:
"هذه الطبعة الخاصة لها مذاق أكثر خصوصية! إنه مذاق الانتصار على الدمار المتعمد لمساحة من الأرض تختصر تأريخ العراق، وجانباً مهماً من تأريخ البشرية. فمن هنا بزغت شمس الحضارة، وتعلم البشر فنون الكتابة، وهندسة الاشياء.
في هذا الكتاب، كما في كتب غافن يانغ الاخرى، قدر من الحب والدفء، والصدق، والشفافية، بقدر ما فيه من لغة متدفقة صافية، وسرد يقترب كثيرا من الشعر. وهو قبل أن يكون مغامرة "رجل أوروبي في المستنقعات السومرية"، فقد كان تمرينا في الكتابة الشعرية في العديد من اوجهه، أنجز فيه يانغ نصا غنيا، وأسس فضاء شعريا، تلمسه عبر فصول الكتاب، عكست، بجمالية عالية، سحر الهور العراقي وعجائبيته.
لدى المؤلف عينان ذكيتان، وبصيره نابهة، قادرة على التقاط ملامح المشهد وتفصيلاته ورصد حركة أبطاله، فاستطاع تحويل العديد من البسطاء والأميين من المعدان، ممن يتندر عليهم أبناء المدن الغليظون، إلى شخصيات محببة، ووثّق حكمتهم، ومعرفتهم المتراكمة، وكرمهم الأصيل، وشجاعتهم، وفرادتهم، وتأريخهم، كما وصف انسجام عالمهم وعزلتهم عن ضجيج التمدن المتغطرس وقصديته البغيضة، كاشفا بذلك تفاصيل المشاهد المتوارية عن العين السائحة.
كان يانغ مدركا، منذ أن وقعت عيناه على أطراف القصب، وتسلل سحر المكان الى روحه، أن الرحلة الحقيقية للهور العراقي لا يمكن أن تكون هي الزيارة العابرة التي تتحدد بعدد ايام العطلة السنوية التي تسمح بها شركة "رالي براذرز" للشحن البحري في البصرة. بل هي الانقلاب الواعي على القولبة الجامدة، والحدود المصطنعة بين الثقافات، فتمرد ضد الرتابة الوظيفية، وبلادة الغرف المكيفة، والنمطية الكريهة، والانفصال المتعجرف عن الوسط الجغرافي بتفاصيله الإنسانية وأبعاده البيئية والايكولوجية.
الرحلة، بالنسبة ليانغ، هي فن الاكتشاف، ومغامرة المواجهة مع المجهول، والثقة بالنفس وبالآخرين، والإحساس الفطري بالجمال، وقوة الشكيمة، واحترام خبرة السكان المحليين والركون لحكمتهم. وهي وقبل كل شيء استجابة لهاجس داخلي باحث عن جمال الأشياء في منابعها، والولوج العميق في محيطها الفيزيائي والروحي، وإقامة علاقة الندية والمساواة مع عناصرها. وهو لا يخفي تتلمذه في هذا على يدي واحد من أعظم رحالة القرن العشرين مكتشف الاهوار: ويلفرد ثسيجر.
حين ترجمت الكتاب، كنت أرى الأهوار في الحلم، واتسعت لديّ تجربة الطفل القصيرة مع الأهوار إلى ذلك الحلم الجميل! وحين قدمت الى العراق، بعد إسقاط نظام التجفيف، متسلحا ببعض المعرفة والكثير من الأمل، ساعدني الحظ في الإسهام بإنعاش مساحات كبيرة من الأهوار، ومازلت أسهم، من مواقع مختلفة، في دفع عملية إعادة إنعاش الأهوار العراقية لتصبح عملية مستمرة لا تراجع عنها.
إنها مساهمتي في إحقاق العدالة البيئية والاجتماعية، شاكرا أولئك الذين يدعمون هذا التوجه، من ناشرين، وكتّاب، وفنانين، ومهندسين، ومسؤولين في الوزارات العراقية المختلفة ممن عملت أو سأعمل معهم من أجل هذا الهدف النبيل".
* سفير وممثل العراق لدى منظمات الأمم المتحدة في روما

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram