من الإشكاليات التي تواجه الثقافة العراقية، وربما العربية على وجه العموم، أن المثقف لا يعي بالضبط ما هو دوره إزاء المجتمع، وعندما يعيه ويعرفه ويتعلمهُ من تجارب الآخرين أو ثقافاتهم وأفكارهم ويؤمن بما يقرأ أو يرى أو يستمع، فإنه يبقى مصرا على القيام بدور
من الإشكاليات التي تواجه الثقافة العراقية، وربما العربية على وجه العموم، أن المثقف لا يعي بالضبط ما هو دوره إزاء المجتمع، وعندما يعيه ويعرفه ويتعلمهُ من تجارب الآخرين أو ثقافاتهم وأفكارهم ويؤمن بما يقرأ أو يرى أو يستمع، فإنه يبقى مصرا على القيام بدوره المريب في تسطيح الوعي الجمعي، من اجل تحقيق منافع ومصالح ذاتية، لا ترقى قط إلى الدور الأساسي والكبير للمثقف في تطوير وتقويم وتعميق وتوجيه الوعي المجتمعي.
والأمثلة على تهرّب المثقف من القيام بدوره الحقيقي الصحيح، كثيرة وملموسة تماما، لأن واقعنا الثقافي يضج بمثل هؤلاء المثقفين اللذين لا يقيمون وزناً لدورهم التثقيفي، ولا تعنيهم أهمية هذا الدور في رفع مستوى وعي الناس، بل ما يهمهم في الغالب مصالح مادية منفعية سرعان ما تؤول إلى الزوال، ومثالنا على ذلك كثير من المثقفين الذين ينساقون بسرعة مع ثقافة الشعارات والخطابات النارية المقصودة، من اجل الاستفزاز ومضاعفة مستويات التعصب والإكراه والصراع السلبي، على حساب إشاعة ثقافة عامة ذات طابع وطني إنساني خالص، تضم الجميع بين مضامينها الراقية، وتذوب فيها الفوارق والخلافات، وتحفظ الاختلافات الفكرية وسواها، وتحمي الوعي الجمعي والمجتمعي من الانحراف الى مهاوي التعصف والقطيعة والتضارب الحاد الذي يحيل الآراء إلى ساحة الصراعات الفعلية.
لذا فإن المطلوب من المثقف أن يبتعد عن تسطيح الوعي المجتمعي، وأن يحصّن نفسه وفكره وآراءه من المغالاة في الطرح، ومن التسرع والاندفاع مع موجات التعصب، ولا ينبغي أن ينساق المثقف في أي حال من الأحوال مع ثقافة الشعارات التي تنتهجها في الغالب جهات حكومية أو سياسية حزبية تغالي في حصر نفسها بأفق قصير يخص الذات والرؤى قصيرة النظر، ولا بد أن يجعل المثقف من نفسه النموذج الأرقى والمثال الذي يمتثل به الآخر الأقل وعيا، وفي هذه الحالة سيكون المثقف هو المتصدر لقيادة الآخر وفقا لوعيه المتقدم.
وكلنا نتفق على أن ثقافة السلطة تحاول أن تستميل المثقف إلى جانبها بكل السبل والوسائل المتاحة لها، لا سيما الجانب المادي الذي يتعلق بإغراء المثقف بالمال وما شابه، أو القيام بالعكس عندما تحاول السلطة الغاشمة تضييق الخناق على المثقف وتحاصره وتلاحقه وتضغط عليه حتى في مصدر رزقه لكي يرضخ لثقافة السلطة ويصبح احد المروجين لها، وكلنا عشنا مثل هذه الظروف القاسية في ظل الأنظمة العسكرية الحزبية الفردية المستبدة، حيث يتم استغلال المثقف أبشع استغلال من اجل إجباره على التطبيل والترويج للسلطة السياسية، ويقوم بدور مريب في تسطيح وعي المجتمع ويهبط به إلى أدنى المستويات، بدلا من أن يغنيه ويعمقه ويحفزه على الإبداع والتطور ومعرفة الحقوق والحريات والتمسك بها والمناداة والمطالبة بها أيضا، وهذه الظاهرة (ظاهرة إجبار المثقف بالتجويع او الترغيب) عاشها وعانى منها معظم مثقفي الدول المتخلفة ومعظم الدول العربية ومن بينها العراق، حيث يوضع المثقف دائما بين سندان الجوع ومطرقة السلطة السياسية المتزمتة.
لذا في ظل ثقافتنا الراهنة ومساحتها المتاحة، وفي ظل الانفتاح السياسي والإعلامي، والاحتكاك بقوة مع الثقافات الأخرى من خلال مزايا وسائل العرض والتواصل الإعلامي والاجتماعي مثل مواقع "فيسبوك" وسواها، مطلوب من المثقف أن يستثمر هذه المزايا من اجل العودة إلى الدور المميز للمثقف والذي يبتعد عن السطحية والانخراط مع صوت القطيع بدلا من قيادته، وعلى المثقف أن يستقل بفكره وآرائه عن الأفكار التي تروج للسلطة، وأن يسهم بقوة في تعميق وتطوير الوعي الجمعي، الذي يهدف إلى توعية السواد الأعظم من المجتمع لكي تفهم الغالبية العظمى حقوقها وتحمي حرياتها المدنية والفردية كافة.