TOP

جريدة المدى > عام > الحدود بين المقدس والدنيوي..إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين

الحدود بين المقدس والدنيوي..إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين

نشر في: 20 يناير, 2013: 08:00 م

على خلفية ما يحدث في عالمنا العربي من صراع وتخلف، مقارنة بما أصبح عليه العالم الغربي من تقدم وحضارة، نتساءل هل يحق لنا أن نتساءل بمرارة لماذا ثقافتنا ثقافة مغلقة ترفض الآخر، وتميل إلى نزعة الاستبداد والعنف؟ هل يعود ذلك إلى ارتباطنا بالمقدس؟ وإن صح ذل

على خلفية ما يحدث في عالمنا العربي من صراع وتخلف، مقارنة بما أصبح عليه العالم الغربي من تقدم وحضارة، نتساءل هل يحق لنا أن نتساءل بمرارة لماذا ثقافتنا ثقافة مغلقة ترفض الآخر، وتميل إلى نزعة الاستبداد والعنف؟ هل يعود ذلك إلى ارتباطنا بالمقدس؟ وإن صح ذلك كيف نعمل على التخلص من المقدس.

في هذا الكتاب الذي يضم عددا من المقالات والبحوث قدمها الدكتور عبد الجبار الرفاعي في ندوات ومؤتمرات وحلقات دراسية مختلفة نتعرف على الحدود بين المقدس والدنيوي، من خلال قيامه بغربلة الموروث وإبعاد المفاهيم والمقولات التي تقف حائلاً أمام التحديث والبناء والتنمية الشاملة، فيتطرق إلى محاولات رجال الدين والفكر الخروج عن المقدس، محدداً هدفه من كتابة هذه المقالات والبحوث وإعادة نشرها لإثارة الأسئلة وتكرار طرحها دون خوف من أحد، لإيمانه بأن المعرفة تبدأ بالسؤال، والسؤال يقودنا إلى التوغل في ما هو مسكوت عنه، وبالتالي  يقودنا إلى إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين.

  في مقالة "الدين هو الذي يمنح الكائن البشري معنى لحياته" يتناول مفهوم المقدس وبعد أن يشير إلى تنوع تعريفاته، يبين بأن فضاء المقدس فضاءً واسعاً غير مغلق ومداراته غير متناهية الأبعاد، وتتنوع بتنوع الثقافات والأزمنة والأماكن، فكل شيء من الممكن أن يتحول إلى مقدس وفق أطر مشروطة. ومن خلال انثروبولوجيا الدين وسيولوجيا الدين، وعلم نفس الدين والهرمنيوطيقا يمكننا التعرف - كما يذكر - على تجليات المقدس وتعبيراته وطبقات نفوذه وعوالمه فهو ظاهرة أبدية وجدت مع الإنسان وهو إحدى البنى العميقة في الوعي البشري وطبيعة حضوره تختلف من مجتمع إلى آخر .

أما الدين حسب ما يذكر فله وظيفة محددة ألا وهي إنتاج المعنى، ويضيء ما هو مظلم في حياتنا ويكشف عن الجمال في الأشياء ورؤيتها بشفافية متناسقة مع عناصر الكون ونظامه. يمضي المؤلف في بيان مفهوم المقدس والديني والفرق بينهما، مستعرضاً آراء وتعريفات عدد من الفلاسفة، ومشيراً إلى نقل مجاله الرمزي المعنوي الروحي في مجتمعاتنا العربية إلى مؤسسة أيديولوجية سياسية يتصارع من خلالها السياسيون، وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر في هذه الثقافة وتفكيكها والتخلص مما حرصت على تكريسه المفاهيم العصبية القبلية والأيديولوجيا القومية والأيديولوجيا السلفية ، وفتح آفاق العقل على عوالم التجديد والتأمل ، وهذا يقع على المثقف النقدي الذي لا يركن إلى أية أيديولوجيا، فالفكر والنقد لا ينفكان.

في مقالة أخرى يدعو إلى تحديث المؤسسة الدينية . فبعد أن يبين مهام المؤسسة الدينية والتأثير المتبادل بين المؤسسة الدينية والمجتمع يؤكد أنه لا يمكن تحديث المؤسسة الدينية ما لم يتم تحديث المجتمعات وتحديث المؤسسات التربوية والتعليمية والسياسية والاقتصادية خاصة في مجتمع منغلق تسوده المفاهيم السلفية وتقرأ النص قراءة حرفية جامدة تمسخ الأبعاد الإنسانية للدين وتستبعد الميراث الرمزي والجمالي والروحي والعقلي للدين. فالمؤسسة الدينية تمثل الذروة الروحية العليا في المجتمع مضافاً إلى دورها في إدارة الشؤون الدينية وهذه تهيئ لها مديونية طوعية بلا حدود لأتباعها ويمضي المؤلف في بيان مقترحاته لتحديث المؤسسة الدينية، واصفاً من يقف في وجه تحديث هذه المؤسسة بالمراهقين والسطحيين والراديكاليين ولا يفقهون رسالة الدين في الحياة، ناصحاً إياهم  بدراسة الفلسفة ، ففي الفلسفة غالباً ما تتحول الإجابات إلى أسئلة، والتفكير الديني العقلي يتوالد فيه الاستفهام والأسئلة اللاهوتية دائماً. ولا يمكن تحديث الفكر الديني من غير أن تثار مثل هذه الأسئلة. وعلى ضوء ذلك يراجع المؤلف حركات الإصلاح الديني الفاعلة والمؤثرة في تاريخ الأديان مثل تلك التي قادها مارتن لوثر كنج في أمريكا ومحمد إقبال ومحمد عبده في مصر.

وبعد أن يقدم رؤيته لأفكار محمد إقبال ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا يتناول العلاقة بين الاستبداد والعبودية الطوعية حيث تسود فضاءه غلبة الفرد على المجتمع وغلبة القوة على الإجماع وغلبة الايديولوجيا على الواقع وبالتالي تختزل الدولة في شخص الحاكم، ولربط العلاقة بين المستبد والمقدس يذكر المؤلف بأنه ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ صفة القدسية ليشارك بها الخالق أو لتعطيه مقاماً ذا علاقة مع الخالق، مستعيراً ألقاب التعظيم وعبارات التبجيل والتمجيد منشداً حضوراً مستفزاً يثير الرعب لدى مجتمعه، واضعاً صوره وتماثيله في الأماكن الغائب عنها فيشعر الفرد بوجوده وسطوته.

ومما يؤسف له أن شيوع الاستبداد وترسيخه في مؤسسة الحكم دفع الكثير من المؤلفين لتبرير جور الحاكم وشرعنة طاعة الطاغوت. ومن خلال قراءة المؤلف لهذه الكتابات والأفكار يستنتج بأن هذا الفكر قد تجمد عند الخطوة الأولى ولم يواصل تنمية البحث في مواضيع أخرى مثل الفلسفة السياسية التي أوجدها الفارابي. وعلى الرغم من وفرة إنتاج الفلاسفة الإسلاميين مما جاءوا بعد الفارابي لكنهم لم يكملوا ما بدأه الفارابي ويمضي الباحث في تناول هذه الناحية ليؤكد أن شيوع الاستبداد أدى  أيضاً إلى اندثار بعض الحقول في الفكر السياسي الإسلامي. أما الفقه السياسي الذي يتناول شؤون المواطنة وحقوق الرعية والأمن السياسي والاجتماعي ونصيحة الحكام ومحاسبتهم وأحكام المعارضة السياسية فلا نجده إلا في مساحة ضيقة داخل تراثنا السياسي الفقهي تجسدت في محاولات الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه المكاسب الذي نفى فيه ولاية الفقيه. وأكد النفي من بعده الشيخ محمد كاظم الخرساني من خلال  مناقشته وتفنيده للأدلة التي تثبت ولاية الفقيه وهذا ما يتناوله المؤلف في مقالة "التفكير بالدولة في مدرسة النجف".

ويعني بمدرسة النجف - وفق ما يذكر - المضمون الثقافي والمعرفي والفقهي والاجتماعي للحاضرة العلمية لمدينة النجف منذ وصول الشيخ محمد بن الحسن الطوسي إلى النجف سنة  "448 هـ"حتى اليوم، مبيناً بان آفاق التفكير الفقهي في الدولة مر بثلاث مراحل يتناولها بالتفصيل ويختمها بمراجعة شاملة لفتاوي وبيانات السيد السيستاني التي أكد فيها مشروعية السلطة التي تستند الى الشعب ولا تقوم على ولاية الفقيه، ناصحاً رجال الدين بعدم زج أنفسهم في الجوانب الإدارية والتنفيذية وأن يقتصر دورهم على النصح وتوفير الأمن.

وفي مقالة لاحقة يتساءل فيها عن مصدر مفاهيم الكراهية "من أين تشتق مفاهيم الكراهية؟" وفيها يبين الحاجة الماسة لدراسة وتحليل منابع العنف والنفي الآخر وبواعث العنف والكراهية والاعتراف بأن مثل هذه الدعوات تكمن في فهمها غير الصحيح للدين وهذا يستوجب علينا أن نحلل الخطابات السلفية ودراسة الآليات الخطابية التي تدعو إلى العنف لأن اللغة ليست أداة محايدة في بيان المعاني . وفي محاولة منه إلى إعادة الشباب ممن غرر بهم بالفردوس إلى جادة الصواب يحلل ويفند الخطاب السلفي وتبجيله العنف والتشديد على أثره الحاسم المستند الى تفسير قمعي للنص القرآني، في حين أن القرآن يشدد في آيات كثيرة على حرية الفرد في اختيار الطريق الذي يختاره في الدنيا والتي يشير إليها في نهاية المقالة.

ومن المقالات المهمة التي اختتم بها مراجعتي للكتاب مقالة إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين .

حملت هذه المقالة عنوان الكتاب، محاولاً فيها إنقاذ الدين من الفهم المتوحش للدين الذي يرتكز على أفكار ودعوات ابن تيمية وتلاميذه، محاولاً بيان زيف هذا الفهم المتزمت السلفي للدين وإضاءة الحقول المنسية في المقدس. فمراجعة سريعة لهذا الموروث نجده ينفي الآخر، وينظر إلى الإسلام باعتباره شيئاً منجزاً ولا نهائياً في التاريخ. فالإسلام والمسلمون من وجهة نظرهم كأمرين قارين ساكنين لا يتحولان ولا يتبدلان يؤثران في كل شيء ولا يتأثران بالزمان، وفي هذا الصدد يستهجن حوادث السيارات المفخخة التي يقودها الانتحاريون، مجدداً دعوته إلى مراجعة نقدية للتاريخ وقراءة تحليلية للنصوص، وتقويماً للموروث من منظور مختلف عن المنظور السلفي وقراءة كتب التراث التي تدعو إلى سمو الأخلاق والمحبة والتسامح، مستشهداً بعدد من الآيات والأحاديث الدينية التي تنص على التسامح والمحبة ونبذ التعصب .

وأخيراً يمكننا القول بأن هذه المقالات المتعددة قد سجلت رؤية المؤلف المحبة للخير وتقبل الآخر ونبذ العنف والطائفية وأعتقد أن ذلك واضح في جميع المقالات ووقف على مسافة واحدة من العنف لجميع المذاهب فنراه مثلاَ يبدي إعجابه بالطرق المولوية وجماليات السلامات الأربعة في مقالة "في حضرة مولانا سياحة في عالم المعنى" وفي الوقت ذاته ينتقد ولاية الفقيه، ويمكننا القول أيضاَ بأن هذه المقالات رغم تعددها إلا أنها تتسم بوحدة الموضوع الذي حمل عنوان الكتاب، وأنها تفتح آفاقاً جديدة للبحث والدراسة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

السحب المطرية تستعد لاقتحام العراق والأنواء تحذّر

استدعاء قائد حشد الأنبار للتحقيق بالتسجيلات الصوتية المسربة

تقرير فرنسي يتحدث عن مصير الحشد الشعبي و"إصرار إيراني" مقابل رسالة ترامب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: هاينريش بيبر والمسبحة الوردية

نادي المدى الثقافي يبحث في أشكال القراءة وأدوارها

حركة الشعر الحر وتحديث الأدب السعودي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

مدخل لدراسة الوعي

مقالات ذات صلة

مدخل لدراسة الوعي
عام

مدخل لدراسة الوعي

لطفية الدليمي تحتل موضوعة أصل الأشياء مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram