اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "هاينه" باتجاه مدرَكات القارئ

"هاينه" باتجاه مدرَكات القارئ

نشر في: 20 يناير, 2013: 08:00 م

بعد جيل الرواد في مصر، ظهر جيل واصل الموازنة الثقافية الصحية بين مناهل التراث ومناهل الحضارة الغربية، أولاً. واستطاع أن يكون وسيطاً نافعاً بين هذه المناهل وبين قراء الأجيال التي تلته، ثانياً. ثم حقق أسلوباً رائعاً لهذه الوساطة، ثالثاً، يتمثل في استيعاب المادة الثقافية الغربية، وتقديمها بأسلوبه الشخصي.

ما زلت أستعيد الكتب النافعة التي قرأتها، منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، لسلامة موسى، عبد الرحمن بدوي، زكريا إبراهيم، فؤاد زكريا، عبد الغفار مكاوي، يحيى حقي، زكي نجيب محمود.. ومن شاكلهم. وما زلت أشعر أنها شكلت قاعدة لا غنى عنها لي، أنا الذي كنت لا أحسن لغة أجنبية.

ثم جاء جيل لم يجتهد في هذا المسعى، أو لم يحسنه، وصار يعتمد الكتب المترجمة، ويحاكيها عن غير علم. إلى أن حلت جائحة الانهيارات السياسية والثقافية والاجتماعية في حياتنا العربية، وقادت الحياة إلى مستنقع اللا معنى. فصرتَ تدخل معارض الكتب، ويصيبك الدوار بين الكتاب الحديث، الذي لا تفهم معنىً حتى لعنوانه، مترجماً كان هذا الكتاب أو موضوعاً، وبين الكتاب الديني السلفي. الأول يدفعك لهوّة مستقبل عمياء. والثاني يسحبك لهوّة ماض خارج الحياة. وصارت الأجيال تُحسن المراطنة مع بعضها، وتجد في اللا معنى لذاذة.

هذه خاطرة خطرت بعد انتهائي من قراءة ممتعة لكتاب صدر حديثاً في العربية، عن الشاعر الألماني «هاينه» (هاينر شهاينه: روح الشعر الألماني ــــ المؤسسة العربية)، وضعه ماجد الخطيب. الكتاب الذي قرأته بمتعة أعادني إلى مسعى الجيل القديم، الذي تلاشى تحت حوافر التيارات النقدية المفتعلة.

المؤلف في هذا الكتاب قرأ، كما هو واضح، الكثير مما كُتب عن «هاينه» في اللغة الألمانية، والكثير مما كتبه «هاينه» نفسه. وأعاد صياغة كل ما قرأه بلغته هو، ورؤاه هو. فكانت النتيجة صيغة لا يقل الإمتاع فيها عن الفائدة. والمؤلف، كما هو واضح أيضاً، بعيد عن التعالم النقدي الذي تتميز به الكتابات النقدية المتأخرة. فسياق أفكاره، وسياق لغته، وسياق منهجه في التأليف يتحرك باتجاه مدركات القارئ بيسر. ولا أعتقد أن طبيعة «هاينه» الرومانتيكية، شخصاً وشعراً، وتوجهها الإنساني، والتقدمي، قد فرضا على المؤلف هذا اليسر. فلو تناول «هاينه» ناقد ما بعد حداثي عربي، لرأيت الشاعر الغنائي مورّطاً وسط شباك «النسق»، «السرد»، «البنية» «الانزياح»، «التماهي»، «التبئير»، «الخطاب»... ومشتقاتها. ولعلي أهجس أن المؤلف عاش العقود الأخيرة في ألمانيا، وفي منأى عن القفزات النقدية باتجاه اللامعنى، وعن اللغة النقدية التي تفشت في العقود المتأخرة.

يبدأ الكتاب مع «هاينه» برأي المفكر الهنغاري «جورج لوكاتش»: «...إذا رأى نيتشه في هاينه «مكراً» أهّله لأن يكون فنان اللغة الألمانية الأول، فإن لوكاتش رأى في «سخرية» الشاعر ذروة نضْج أدبي وفكري لم يبلغها أي شاعر ألماني». وتتوالى الفصول بهذا المستوى من الغنى: الشاعر المجدد، هاينه وغوته، هاينه والشرق، هاينه والفاتيكان، هاينه وأنثى الشؤم، نظرية المؤامرة في موت هاينه... ولكل فصل من هذه الفصول حكاية مشوقة، وزوايا نظر بالغة الدسامة، وشواهد من لوحات. فـ«هاينه» شاعر انسلخ من مجتمع الطبقات، وانسلخ من رومانسية الحالم، وانسلخ من الانتساب الديني، وغمر نفسه بتيار الإنسان: «أضحك وإن حملق التافهون بي،/ بوجوههم الكبشية./ أضحك وإن تشممت الثعالب الجائعة، الشامتة بي وحملقت./ ...لأن أمتعة السعادة الجميلة حينما تتحطم،/ وتحرر أيدينا من قيود المصير/ وتطوّح بما بين أقدامنا؛/ وحينما يكون القلب بالحب ممزقاً،/ ممزقاً، مقطعاً ومطعوناً، حينها لا تبقى لنا غير ضحكتنا الميلة المدوية».

قصيدته تبقى حية بعد الترجمة، لأن البلاغة لا تحجّم معانيه. ولذلك لم يبخل علينا المؤلف بفيض من ترجمة شعره التي احتلت النصف الثاني من الكتاب الضخم (406 صفحة). كان «هاينه» في مطلع شبابه الناضج محتفياً بتوقه إلى الشرق، والشرق الإسلامي بصورة خاصة. استوحى الأندلس في أكثر من قصيدة قبل أن يبلغ العشرين، وفي الرابعة والعشرين أنجز دراما شعرية رائعة بعنوان «تراجيديا المنصور». يجدها القارئ في ترجمة وفية كاملة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram