معروف عن العراق أنه مجتمع عشائري يبلغ عديدها الآلاف تضم كل عشيرة منها بين ثلاثة آلاف إلى سبعين ألف فردا. ومع أن العشائر العراقية كانت قد قامت بثورات وتمردات ضد سلطات الحكم العثماني،إلا أن أبرز دور لها هو اشتراكها في ثورة العشرين،إلى جانب رجال ا
معروف عن العراق أنه مجتمع عشائري يبلغ عديدها الآلاف تضم كل عشيرة منها بين ثلاثة آلاف إلى سبعين ألف فردا. ومع أن العشائر العراقية كانت قد قامت بثورات وتمردات ضد سلطات الحكم العثماني،إلا أن أبرز دور لها هو اشتراكها في ثورة العشرين،إلى جانب رجال الدين الذين رفعوا شعار (إخراج الكافر الأجنبي من البلاد) بوجه القوات البريطانية التي دخلت العراق عن طريق البصرة عام 1917.ويحسب للعشائر العراقية أنها أسهمت من خلال هذه الثورة في تعميق الحس الوطني ومناهضة السيطرة الأجنبية ،وإضعاف الروح الطائفية التي جعلت بغداد ساحة احتراب طائفي في فترة الحكم العثماني .
والصراع التركي- الفارسي في السيطرة على العراق وصل فيه الحال إلى الاعتداء على أضرحة الرموز الدينية للطائفتين السنية والشيعية.وأنها " العشائر" شاركت في الإجهاز على مشروع الحاكم البريطاني في العراق الكولونيل (ولسن).إذ يذكر حسن العلوي أن أعظم إنجاز لثورة العشرين هو إفشال مشروع (ولسن) المتمثل بعدم الاعتراف بدولة عراقية أو حكم عراقي ،والسعي إلى تهنيد العراق بتهجير الألوف من الهنود إليه،أو جعله مهجرا لليهود.
ومنذ ذلك التاريخ تعزز موقع شيوخ العشائر في العراق ،إلى عام 1959 الذي وجهت فيه ثورة 14 تموز ضربة كبيرة لشيوخ العشائر وملاّك الأراضي بأن جردتهم ليس فقط من حيازتهم أراضي واسعة ،بل من عبوديتهم ملايين الفلاحين وسلطتهم الاعتبارية والعرفية بإلغاء نظام دعاوى العشائر .
والواقع إن عشائر وسط وجنوب العراق تختلف عن عشائر المنطقة الغربية،في أن الأولى تتحكم بها قيم المرجعية الدينية فيما تتحكم القيم البدوية في الثانية ،لاسيما تلك التي تسكن في سهول الشمال الغربي من العراق.غير أن كلا الفريقين تجمعهما "العصبية القبلية" بوصفها الوسيلة التي تلزم الجميع بحماية كيان العشيرة لقاء تأمين حاجات أفرادها لاسيما حاجة الإنسان إلى الشعور بالأمان،التي تجسدت بشكل واضح في عام 2003.فحين سقطت الدولة في نيسان التي كانت تمثل خيمة الأمان،وتعطّل القانون وصارت السلطة لمن هو الأقوى في الشارع ،برزت لدى الفرد العراقي سيكولوجيا الحاجة إلى "الاحتماء" فكانت العشيرة هي ملاذه الأول.
إن التاريخ يحدثنا أن شيوخ العشائر كانوا يقفون مع الأقوى.ففي التقرير الذي أعدته دائرة الاستخبارات البريطانية في العراق عن مشايخ ولاية بغداد سنة 1917،يذكر مترجمه الدكتور عبد الجليل الطاهر أن بعض شيوخ العشائر كانوا متعاونين مع الإنكليز ،وأنهم كانوا يحصلون منهم على الرشوات،وأن الإنكليز استعملوا أساليب الإغراء وتلويث الضمائر واستطاعوا شراء ذمم بعض شيوخ العشائر.
ويذكر (ولسن ) أن الإنكليز استطاعوا أن يرشوا شيخ آل فتلة( علوان الحاج سعدون) بألف باوند،وقدموا مبلغا لا يقل عن ألفي باوند إلى آل شبل بواسطة الخزاعل ليمنعوا تسليح العشائر التابعة لهم ويبقوا هادئين..وحصل آخرون على مبالغ ضخمة.وهنالك تفسير لطيف يذكره الدكتور كاظم حبيب في كتابه (لمحات عن عراق القرن العشرين) بأن شيوخ العشائر لا يحسبون ما يقدم لهم على أنه رشوة ،بل بسبب قوتهم واضطرار الآخرين على تقديم ذلك لهم رغبة في التزلف لهم أو تخلصا من شرورهم.ومع أن هذا التفسير ينسجم وطبيعة الشخصية البدوية،فإنه تبرير لازدواجية المواقف ولسلوك غير مقبول وطنيا وأخلاقيا.
والحقيقة،كما نرى،أن الانكليز هم الذين أدخلوا شيوخ العشائر إلى ميدان السياسة. ففي التقرير الذي أعدته "المس بيل" ورفعته إلى الحكومة البريطانية عام 1923 ، أشارت فيه إلى أن أصلح طبقة لحكم العراق هم شيوخ العشائر.ولهذا أشرك رؤساء العشائر منذ بداية الحكم الملكي في المجالس النيابية المتعاقبة بعدد كبير قد يزيد على ثلث أعضاء المجالس المذكورة.وكانوا يأتمرون بأمر الإنكليز الذين منحوهم أراضي واسعة .وكان الحكم الملكي هو العصر الذهبي لشيوخ العشائر،ففيه صاروا أصحاب ثراء فاحش وجاه عظيم واعتبار اجتماعي كبير وسلطة يستعان بها في إدارة البلاد وضرب المعارضة السياسية.وكان دورهم في البرلمان مثار سخرية الناس وإطلاق النكات عليهم،من قبيل التصويت داخل البرلمان على قرار برفع الأيدي،وكان أحدهم نائما في المجلس ولما أيقظوه رفع يده وقال"موافج..يعني موافق" دون أن يعرف ما هي القصة!
إن النظام السياسي في العراق تعامل مع شيوخ العشائر بمعيار قوة هذه العشائر في دعم حكومة السلطة.مثال ذلك أن النظام السابق شجع على استيطان عشيرة الجنابيين في الشريط الواقع جنوب بغداد لتكون حائلا بين بغداد والمدن الشيعية في الجنوب.ويذكر الدكتور علي عبد الأمير علاّوي في كتابه (احتلال العراق) أن رؤساء الأفخاذ العشائرية الجنابية منحوا أراضي زراعية خصبة في اللطيفية واليوسفية والمحمودية .ويشير التقرير الخاص من المعهد الأمريكي للسلام ،نيسان 2005 إلى أن هذه المنطقة هي التي صارت تعرف في ما بعد بـ"مثلث الموت".فيما كانت سلطة النظام السابق تنظر بعين الريبة إلى عشائر الدليم لأن عددا من ضباط الدليم كانوا قد اشتركوا في محاولات كبيرة للإطاحة بنظام صدام،أخطرها المحاولة التي قام بها اللواء الطيار محمد مظلوم عام 1995.
وبالمقابل عمد صدام إلى تشكيل ما أطلق عليه (شيوخ أم المعارك)..كان كثيرون منهم رؤساء عشائر شيعية اشترى ذممهم بدفع هدايا مالية ومسدسات وامتيازات أخرى،لقاء قيامهم بالسيطرة على أفراد عشائرهم وأن يكونوا عيونا للسلطة في مناطقهم،واستجاب عدد منهم طمعا بـ(التكريم) أو دفعا لشرّ طاغية لا يرحم.ومثل هذا حدث أيضا في النظام الديمقراطي ،إذ التقى رئيس مجلس الوزراء (نوري المالكي) بعدد من الشيوخ ولكن بقصد كسب أصوات أتباعهم في الانتخابات وتأييدهم لشخصه.ويذكر لي احد شيوخ الناصرية انه قبيل انتخابات 2010 زاره ممثلان عن حزبين شيعيين في السلطة طلبا منه أن يمنحاه أصوات أفراد عشيرته،ولأنه لا يريد أن "يزّعل "احدهما فإنه أخبرهما بأنه سيجعل أصوات جماعته مناصفة بينهما!
ولأول مرّة في تاريخ الحكومات العراقية يكون سوء إدارة الحكومة لشؤون الناس والبلاد سببا في بعث الروح الوطنية وخفض العداء الطائفي بين شيوخ عشائر في الطائفتين السنّية والشيعية.فبعد اندلاع التظاهرات في الأنبار في الأسبوع الأخير من عام 2012 ،ومن ثم انتقالها إلى الموصل وسامراء ومدن عراقية أخرى،وظهور شيوخ عشائر سنّية تشكو ظلم الحكومة وتؤيد مطالب جماهير انتظمت في تظاهرات عفوية لم تستجب لها الحكومة بل سخر منها رئيسها بوصفها (فقاعات)،عُقد في البصرة بعد أربعة أسابيع من اندلاع تلك التظاهرات،وتحديدا في 19/1/2013 ،مجلس ضم شيوخ عشائر من البصرة وميسان وذي قار بأغلبية شيعية ،أعلنوا فيه تضامنهم مع المطالب الشرعية للمتظاهرين في المدن ذات الأغلبية السنية.وفي اليوم نفسه أقام شيوخ عشائر مجلس عزاء في مدينة النجف لشيخ عشائر الجبور (محمد طاهر العبد ربه)الذي اغتيل في الموصل وعدّوه رمزاً من الرموز الوطنية.
بالمقابل ،نظمت وزارة الداخلية في اليوم نفسه مؤتمرا موسعا لرؤساء عشائر من الطائفتين.ومع انه دعا إلى تشكيل لجنة من رؤساء العشائر لتوحيد مطالب المتظاهرين،إلا أن الهدف الرئيس له هو خطب ودّ شيوخ عشائر ليكونوا مع الحكومة. ويشير تقرير لــ(المدى برس) إلى أن وزارة الداخلية وزعت (أمس السبت 19/1/2013)، استمارات خاصة بحيازة وحمل السلاح لأكثـر من 150 من شيوخ العشائر بينهم زعماء قبليون من الأنبار، ودعتهم إلى التدخل لوقف التظاهرات. وهذا حال كل الحكومات العراقية..إنها تستميل إليها شيوخ العشائر حين تشعر بخطر يتهددها،وإنها تجزل العطاء لمن يتعاون معها،وإن عددا من الشيوخ يستجيبون لذلك حتى لو كانوا يعلمون أن الحكومة على باطل.ومع أن محاولات من هذا القبيل كان يمكن أن تحقق نجاحا للحكومة،غير أن التعويل عليها يعدّ نوعا من المبالغة ،لأنه ما عاد بمقدور شيخ على تهدئة جموع تطالب بحقوقها ورفع الظلم عنها،وصارت تتكاثر (جمعة ورا جمعة).
إن من خصائص شخصية شيخ العشيرة أن الحمية على وطنه لا تأخذه قدر ما تأخذه الغيرة على الشرف،بمعنى أنه يغلّب قيمه العصبية ومصالح عشيرته على مصلحة الوطن.ولك أن تتذكر ما حدث في بلدة هيت حيث عمد الجنود الأمريكان إلى تفتيش المنازل بطريقة تسيء إلى القيم العشائرية الخاصة بموضوع الشرف،وأدى ذلك إلى اندلاع ما يشبه التمرد في البلدة ،لاسيما في أوساط الشباب، بحسب ما نشرته جريدة الواشنطن بوست في 30 أيار 2003.
ومن خصائصها أيضا أن شخصية شيخ العشيرة ميالة إلى التباهي بما تملك من ثروة وممتلكات وخيول وأبقار وأغنام..ونساء أيضا!.وقد توفرت الفرصة لعدد من الشيوخ أن يجمعوا بين رئاسة العشيرة والعمل كرجال أعمال حتى أثروا من التهريب ومن التحايل على نظام العقوبات في تسعينات القرن الماضي.ويذكر علي علاوي في كتابه(احتلال العراق) أن بعض رؤساء العشائر اندفعوا للتعاون مع سلطة الائتلاف الموقتة لأسباب مالية صرف.
وللدكتور على الوردي رأي أنّ من طبيعة العشائريين أن اتفاقهم موقت وتنازعهم دائم،فإذا أتيح لهم أن يتفقوا على أمر ما ،وينالوا فيه انتصارا ،فسرعان ما يختلفون فيه ويتنازعون بعد نيل الانتصار..وأنّ هذه هي عادة العشائر في كل زمان ومكان ولا يمكن أن يتخلوا عنها إلا إذا تخلوا عن عصبيتهم القبلية.
لقد كان هذا الرأي صحيحا حين كانت الحكومات العراقية تأتي عبر ثورات أو انقلابات عسكرية،لكن يفترض أن يحصل تغيير في الزمن الديمقراطي،لأن القيم العشائرية والقيم الديمقراطية ضدان لا يلتقيان.
ومع أن ما حصل في الأسبوع الثالث من كانون الثاني 2013 من تقارب بين شيوخ عشائر من الطائفتين،يؤشر أنها الخطوة الأولى باتجاه إشاعة روح المواطنة التي تفضي إلى قيام الدولة المدنية،إلا أن ازدواجية مواقف شيوخ العشائر تبقى يحكمها عاملا التودد للسلطة والحصول على منافع وسلطة وجاه،والعصبية القبيلة التي تكون هي الأقوى في أوقات الأزمات،ما لم تحتضن هذا التقارب الجديد القوى الوطنية والديمقراطية وأجهزتها الإعلامية ومؤسساتها الثقافية باتجاه إقامة الدولة المدنية وإنهاء تاريخ عشر سنوات (ديمقراطية)من النكبات والخيبات.
*رئيس الجمعية النفسية العراقية