TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عقدة الغيتو

عقدة الغيتو

نشر في: 21 يناير, 2013: 08:00 م

حسنا فعل المعلق العراقي على لعبة بطولة كأس الخليج لكرة القدم عندما اعتذر عن الاساءة التي صدرت عنه تجاه الحكم السعودي. وكانت الاساءة بالغة فعلا، وقبيحة حقا، خصوصا لأنها امتدت من شخص الحكم السعودي الى شعبه، فأصبح الخطأ كبيرا وشنيعا. ولكن يبقى الاعتراف بالخطأ فضيلة. ويكون فضيلة بالفعل عندما يصدر الاعتراف عن وعي وايمان من صاحبه بأن فعله أو قوله كان خطأ. إن الفضيلة تتضاعف مع ادراك المخطىء للأسباب الظاهرة والكامنة وراء خطئه. ففي هذه الحالة تكون للإعتذار فضيلتان، واحدة عن الإعتراف بالخطأ، وأخرى عن كونه  عملا مميزا من أعمال الوعي.

ولكن يفقد الاعتراف بالخطأ الفضيلة من الأساس، اذا جاء تحت ضغط الرأي العام، وكان بالتالي مجرد انحناءة للعاصفة. فهو في هذه الحالة يشبه نوعا ما الاعتراف الكاذب بارتكاب جريمة تحت ضغط التعذيب.

ولسوء الحظ فقد تابعت لعبة البطولة عبر قناة العراقية، الأمر الذي وضعني بين ضغطين بدلا من واحد، أحدهما مصدره الفرجة المتحمسة على اللعبة، والأخر ارهاق الاستماع الى صاحبنا المعلق، وكانت أسباب الارهاق كثيرة، لكن أهمها لهجة "الضغينة" على الحكم السعودي للمباراة. وهي لهجة لا أستطيع تفسيرها خارج "عقدة الغيتو" التي يشعر بها بعض أبناء جلدتنا العراقيين، ممن يرون أن الجميع يكرهوننا. وكان صدام أول من أدخلنا فيها. ولكن ورثته لم يقصروا، بل أكثروا منها، وزادوها حدة.

واليهود هم أشهر من اشتهروا بـالعيش في "عقدة الغيتو". ففي مراحل طويلة من تاريخهم المديد عزلوا انفسهم عزلا تاما عن الجميع، فسببوا لأنفسهم بذلك نبذا شاملا من الجميع. وهي عقدة لاتزال تحكم قسما منهم، كما انها تحكم أفرادا كثيرين وجماعات بشرية عديدة. ولعل الدكتاتور، كشخص، نموذج من نماذج الأفراد الذين يحيون في العزلة ويرون العالم ويحددون مواقفهم منه في ضوئها.

ويمكن اختزال نوع عزلة الدكتاتور بـ "الرأي الواحد". رأيه هو. فصدام، مثلا، آمن وحده بين رؤساء دول العالم جميعا بأن احتلاله الكويت حق. كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة اعتبرته باطلا ودانته. كلها من دون استثناء. لكن صاحبنا الساكن في حي العزلة أصر وحده إصرارا على أنه حق، حتى كان ما كان، ويا ليت الذي كان ما كان.

ويمكن اعتبار موقف صدام ذاك من عجائب الدنيا. فكيف يمكن لمخلوق أن يعتقد أنه وحده صح وان الاخرين جميعا خطأ؟ الجواب بسيط. انه "الرأي الواحد" الممنوع من الحوار مع "الرأي الآخر". فمتى ما تعذر الحوار بين الآراء، أصبح كل رأي من الآراء مقدسا، لا يقبل المس. ويتحول أصحاب هذه الآراء الى عبدة أصنام. فكل رأي صنم. انه ليس وسيلة لخدمة هدف أكبر منه، وانما هو الهدف، والناس، أنت وأنا، جنود الرأي أو الصنم.

وستظل هذه الأرض زاخرة بالعجائب طالما كانت لـ "الرأي" هذه الحرمة المانعة للحوار، خاصة على المستوى السياسي. اذ أنني استطيع الحوار مع صديقي العزيز، الصحفي اللامع عامر بدر حسون، من الصباح الى الصباح، كما فعلنا خلال استضافتي له في الأيام الأخيرة الماضية، وبلا اتفاق في الغالب، لأنني عنيد وهو أعند، ومن دون ضرر ولا ضرار.

ولكن هذا يستحيل على أصحابنا في السياسة، لأنهم أصلا جماعة ضرر وضرار، وبتأثيرهم، أو من مصنعهم، خرجت لهجة الضغينة من صاحبنا المعلق الرياضي، الذي أرجو له أن يكون صادقا باعتذاره، ومتحررا ومتنظفا به من آثار السياسات القبيحة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram