لماذا نعشق الماضي؟ هل هو حنين الروح لما خسرناه من وقود العمر؟ أجزم بأن السبب الرئيس كون ماضينا أجمل من حاضرنا، وبات العراقي الإنسان الوحيد في هذا الكون الذي يخشى من غده. فجميع دول العالم تحتفل وترقص باستقبال العام الجديد وتستذكر انجازاتها في العام ال

لماذا نعشق الماضي؟ هل هو حنين الروح لما خسرناه من وقود العمر؟ أجزم بأن السبب الرئيس كون ماضينا أجمل من حاضرنا، وبات العراقي الإنسان الوحيد في هذا الكون الذي يخشى من غده. فجميع دول العالم تحتفل وترقص باستقبال العام الجديد وتستذكر انجازاتها في العام السابق، إلا نحن فنخشى من غدنا المجهول ونجلس نعد خيباتنا وخساراتنا وننظر بقلق الى مستقبل وطن ومواطن باتا لعبة بأيدي بعض الساسة الجدد الذين لم يفقهوا من السياسة غير كسب المناصب والمكاسب، لا يهمهم ما يعانيه الشعب الجالس في مستنقع الأزمات، وما يهمهم بالفعل هو ما وصلت إليه أرصدتهم من أموال وأملاك.

مقبرة قصب السكر

ما دعاني إلى قول ذلك هو أن أثناء دخولي قضاء المجر الكبير تذكرت مدخله في ستينيات وسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي؛ عندما نذهب إليه في العطل المدرسية، كان مدخلا ساحرا بالجمال، شارعا رائعا تحيطه الأشجار من الجانبين بحيث تتعانق أشجار الجانب الأيمن مع شقيقاتها من الجانب الأيسر لتشكل مظلة طبيعية خضراء تسحر وتذهل العيون. وعلى الجانبين تمتد مزارع قصب السكر الذي كان من أهم ثروات المدينة، اليوم لا ترى تلك الصورة فقد قطعت الأشجار وانتحرت مزارع القصب بعد موت معملها مع صاحبه معمل الورق، وأنا ادخلها في ذلك الزمن الجميل كانت رائحة العنبر تعطر الأنوف وضحكة أمواج نهر المجر الكبير تغازل سفنه ومراكبه التي تزين النهر بحركتها، لكونها الوسيلة الوحيدة التي كانت يصل من خلالها سكنة القرى البعيدة إلى القضاء لغرض عرض بضاعتهم من اسماك وطيور وألبان ومحاصيل زراعية، أما اليوم فما عاد النهر نهرا بل نهير! لا يقوى على حمل خشبة مشحوف، وهذا الإهمال مستمر على الرغم من وجود العديد من أبناء القضاء في حكومتنا الحالية مثال ذلك نائب رئيس الجمهورية الحالي خضير الخزاعي ووزير البلديات عادل مهودر ومحافظ ميسان الحالي وغيرهم وليس بشيء غريب على هذا القضاء أن يكون مواطنوه في دفة الحكم فقد سبقهم في ذلك أول وزير دولة في حكومة عبد الرحمن النقيب وهو نجم البدراوي الذي سمي حي كامل  في القضاء باسم أسرته.

مؤسسها الشيخ

وادي بن منشد

يعد القضاء من اكبر أقضية ميسان في الكثافة السكانية..، ومدينة المجر الكبير التي تقع قرب الطريق العام (عمارة ـ بصرة) تأسست عام 1876 على يد رئيس عشيرة ( البو محمد ) الشيخ وادي بن منشد، وسمّيت بالمجر الكبير نسبة إلى أسم النهر الذي تقع على جانبيه والمتفرع من جهة الغرب . وكانت المجر ناحية تابعة لقضاء قلعة صالح لغاية 1970 .

ونهرها احد فروع دجلة من الجانب الأيمن، ومعناه اللغوي (المجرة) وقد قامت عليه قرية سرعان ما تحولت إلى ناحية ترتبط إداريا بقضاء قلعة صالح، والمجر الكبير مدينة معروفة منذ القدم إذ ذكرت في القرن السابع عشر في أسفار الرحالة الأجانب وهي تبعد عن مدينة العمارة حوالي 33 كم ويقع القضاء في جنوبها، وتبلغ مساحته 506كم2.ْ

والمجر الكبير منذ بدايته والى يومنا هذا ما هو إلا سوق يتبضع منه سكنة النواحي والقرى التابعة له وكذلك أبناء الهور الذين يزودون القضاء بسلعهم  واستبدالها بما يحتاجون إليه من سلع ومواد غذائية، فهم من يزودون المدينة بالمحاصيل الزراعية والأسماك والطيور وبيض الدواجن والألبان بجميع أنواعها.

من المجر انطلقت الانتفاضة

للقضاء حكايات كثيرة في ذاكرة الزمن لا يتجاهلها التاريخ، وعلى كل فرد من أبناء ذلك القضاء والبالغ عددهم 120 ألف نسمة أن يتفاخر بأنه ابن تلك المدينة التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة الشعبانية عام 1991، وعلى المرتدين زيفاً ثوبَ تلك الانتفاضة أن يحنّوا لذلك البطل الحقيقي هاماتهم، انه من دفع الثمن وهجّر من دياره وضحى بأغلى أبنائه ضد أشرس نظام دكتاتوري ليترجم حقيقة أهزوجته المعروفة على ارض الواقع، مرددا للعالم اجمع (يعمارة ابنج بايع روحه)، وكم من مقبرة جماعية اكتشفت لأبناء قرى ونواحي ذلك القضاء وقد سبق القضاء الجميع مع اندلاع ثورة تموز عام 1958 بثورة الفلاحين على الإقطاع، حين رددت حناجرهم (للموت وما أريد إقطاعي)، وقد ساند ثورتهم الحزب الشيوعي سواء بقصائد شعراء الحزب وأولهم الشاعر الكبير مظفر النواب وخاصة بقصيدته (لا تفرح بدمنه لا يلقطاعي... أصويحب من يموت المنجل يداعي)، أو من خلال التنظيم الذي كان يشاركهم فيه الشيوعي شيخ عشيرة الشراشحة وهي إحدى عشائر البومحمد المرحوم البطل فعل ضمد، حينها لم ينس الفلاحون دور الحزب في نصرتهم على الإقطاع فأطلقوا أهزوجتهم الشهيرة (خلاف الشيوعي انذلينه) ويقصدون لولا الحزب الشيوعي لأصابنا الذل.

نعم هذا هو المجر الكبير وهؤلاء أبناؤه الغيورون والعاشقون لوطنهم دوما وابدأ.

من سيّئ إلى أسوأ

تذكرت وأنا أسير بأزقتها التي ملأتها حفر المجاري عوائل لمنتفضين حقيقيين ضاقت بهم السبل فسكنوا المنافي وعادوا بعد التغيير فرحين لوطنهم فلم يجدوا غير التهميش وكان ثمن بطولتهم الإقصاء والسكن في خرائب هي عبارة عن مخازن للحبوب زرتُهم عام 2008، وكتبت عنهم في (المدى)، فهل رفع ما كتبنا الحيف عنهم أم أن الكمامات التي وضعها الطاغية على أفواهنا رفعها عنا قادتنا الجدد ووضعوها على أعينهم وآذانهم لنذهب إلى القوم المجاهدين والصابرين لنعرف منهم الجواب.

وضع المنطقة التي رأيتها بالأمس لم يختلف بشيء أبدا بل ازدادت من سيّئ إلى أسوأ، وما ينذر بالمأساة أن أطفالا بعمر الورد ووجوههم تبتسم للشمس يلعبون وسط مستنقعات ومكبات للقاذورات، والجميع يشكون غياب الخدمات وابسط الحقوق التي تمنحها الدولة للبشر.

الطفلة شهلاء

تبحث عن منقذ

عبد الكاظم رحيم، احد رجال الانتفاضة يستذكر بألم فرحنا بالتغيير ورجوعنا إلى الوطن بعد مكوثنا في إيران أكثر من اثني عشر عاما، عدنا لنخدم بلدنا فكان ثمن الجهاد هذا المأوى المأساوي؛ سقوف بيوتنا من صفائح الألمنيوم (الجينكو) الذي لا يحمينا من المطر.. شهلاء طفلة جميلة كانت تقف بجانبي مع صديقتها تشاركنا الحديث مع صديقتها ابنة محدثنا قالت من دون أن أوجه لها سؤالاً "من تمطر الدنيا نغرك" شعرت بشكواها وكأنها تقول لي هل من منقذ؟ رفعت رأسي للسماء بحسرة وطن يملك كل شيء ولم يحصل مواطنه على شيء، تذكرت حينها شاعرنا البصري عبد الحسين الحلفي الذي رحل سريعا حين قال "طبع بيه بصراحة أحجي يا ناس....وحتى بالحلم أحجي بصراحة... كبل جانت رفيقي وهسه مولاي... الشعب بثنينهن ما شاف راحة".ويضيف رحيم ولم نحظ بغير الوعود من المسؤولين. فأي دين يرضى بهذا وأية شريعة تحلل ذلك؟ البرد ينهشنا في الشتاء وحرارة الصيف لا ترحم، نتمنى أن يسمعنا أهل الضمائر الصادقة وينقذونا من هذا الذل.

290 عائلة في هور (همّت)

يقول احد المجاهدين وهو جواد كاظم الشغانبي الملقب بالشيخ (أبو فاطمة) نحن قبل الانتفاضة كنا رافضين للحكم واغلبنا لم يشارك في الحرب، لكوننا نسكن الأهوار ورزقنا يومي نعتمد عليه في حياتنا البسيطة، وبعد حصول الانتفاضة حملنا السلاح مع الشيخ كريم ماهود في محاولة منا للتخلص من ظلم الديكتاتور، ولكنه استطاع أن يقضي على الانتفاضة ويقطع الماء عنّا وقام بحرق بيوتنا وقتل حيواناتنا وجميع ما نملكه فأصبح أمامنا خياران إما الموت على يد نظام هدام أو الهرب باتجاه إيران، مبينا أن العوائل التي فرت باتجاه إيران من الهور الذي نسكنه بحدود 290 عائلة وهي خليط من عشائر البو محمد والفرطوس والسادة الموسويون وآل حميد والفتلة والفريجات، ولكن أكثرهم من الشغانبة وهي إحدى عشائر البو محمد.

وعما يتذكره عن بعض الأسماء الذين قاتلوا معه ونزحوا باتجاه إيران يذكر الشغانبي سيد حيدر بن سيد كاهي وحجي زيارة الفرطوسي وجماعته، وكذلك الفريجي وجماعته، وحين نزحنا بقينا ما يقارب الثمانية أشهر على الحدود في هور همّت، حيث لم تسمح لنا إيران بالدخول.

وبعد زيارة قام بها آية الله الشهيد محمد باقر الحكيم وغيره من المراجع، استطاعت الأمم المتحدة بعد الاتفاق مع الحكومة الإيرانية أن تسمح لنا بالدخول.

الهور مقبرة لـ(40) فرداً

وعن خساراتهم في هور (همّت) يتذكر أبو فاطمة بألم تلك الفترة ومعاناتهم من شح الطعام وكيف فتكت الأمراض بـ(40) فرداً من الرجال والنساء والأطفال، وتم دفنهم بهور همّت، نتيجة قلة الدواء والغذاء وعدم وجود المياه الصالحة للشرب، يستذكر أبو فاطمة ذلك وأرى حزن العالم كله في دموع كان يحبسها عنوة لكن طوفانها لا يقاوم على من فقد، ولماذا ضحى؟ هل من اجل "خرابة" من البلوك يسكنها وسط  مخزن من الصفيح (جملون) مهمل تابع لوزارة الزراعة؟

يستمر الشغانبي في ذكر مأساة تلك العوائل التي تصدت لأشرس حملة قادها الدكتاتور لتصفية الأهوار وساكنيها، يقول بعد السماح لنا بالدخول إلى إيران وضعنا في الحجز لمدة أربعة أشهر بعدها تم إطلاق سراحنا، فعمل البعض في الزراعة أو كمنظف او عامل بناء وغيرها وكنا نشعر بالانكسار، بل البعض تمنى أن يعدم على يد القوات الصدامية ولا ذلّ الغربة والحياة المتعبة التي عشناها هناك بحسب قوله.

الفرحة التي لم تكتمل

يصف الشيخ أبو فاطمة فرحتهم بالتغيير بأنها لا توصف بعد غربة 12 عاما، وعادوا إلى بلدهم بانتظار التكريم على جهادهم وتضحياتهم، ولكنهم لم يحصلوا كما يقول على أي شيء باستثناء مبلغ قدره ثلاثة ملايين قدمته لهم مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة ومنذ التغيير إلى يومنا هذا لم نحصل من الحكومة على شيء، يقول أبو فاطمة "للأسف أصبحنا جسرا لمن يقودون البلد الآن".

على الرغم من أن اغلب سياسي البلد الآن هم من سكنوا العواصم الأوربية وكانوا يعيشون بترف، أما هؤلاء فهم الذين حملوا السلاح بوجه الطاغية وهم من خسروا بيوتهم وأملاكهم وأموالهم وضحوا بأولادهم، وسكنوا الغربة مجبرين ويكافئون بهذا الشكل، أي أناس نحارب يا أبا فاطمة، وتحت أية قوانين يحكمنا هؤلاء؟

إخلاء الخرائب بعد عام

يناشد أبو فاطمة الحكومة العراقية بالالتفات إلى الحقوق المهدورة لتلك العوائل التي عانت الأمرين في ظل النظام السابق واللاحق، مبينا للمدى أنهم وطيلة الأعوام التي مضت تطالبنا بعض الجهات بإخلاء هذه الخرائب التي ترونها، وقبل فترة أعطونا مهلة لمدة عام بعدها يتم طردنا وليس لنا ملاذ آخر، ولا هناك من يلتفت إلينا من المسؤولين، فهل نستحق هذه الانكسارات والذل في بلد دافعنا فيه عن كرامته وحريته، وتمنى أبو فاطمة على رئيس الحكومة المركزية أن يخشى الله فينا ونحن نستحق التقدير والعرفان وليس الذل والهوان كما يقول أبو فاطمة وان لم يلتفت فهو خائن أمام الله والناس. قبل أن نغادر الخرائب صورنا داخلها لنشهد على اكبر جريمة في تاريخ البشرية ينفذها ساستنا الجدد بحق تلك العوائل الأبية، ومع خروجنا قمنا بالتقاط صورة لطفلٍ كأنه القمر يقف بالقرب من أحد المستنقعات وما أكثرها في مدينة الذهب والتعب.

والى حكاية أخرى من حكايات (هذا وطني)