TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العنف الأعمى

العنف الأعمى

نشر في: 25 يناير, 2013: 08:00 م

لا يكاد يمر يوم دون وقوع حادث واحد على الأقل من حوادث العنف الأعمى، بصورة عبوة ناسفة او سيارة مفخخة أو عملية انتحارية. أما الاغتيالات فلا يمكن تصنيفها ضمن فئة العنف الأعمى، نظرا لاستهدافها أشخاصا معينين من السياسيين أو الأمنيين.
ويوصف العنف بالأعمى لانه يضرب خبط عشواء، ويكون ضحاياه من الناس العاديين باختلاف شرائحهم وفئاتهم. وهدفه المباشر اشاعة الذعر العام، والحاق خسائر روحية ومادية مؤثرة. فالناس هم العدو الأول لـ "العنف الأعمى"، لأنهم المقصودون المباشرون به. والحكومة بالطبع هي الأخرى مستهدفة بهذا العنف، وإن بطرق غير مباشرة. فوجوده بحد ذاته بمثابة اعلان عن قصور في قدرة الحكومة على ضبط الأمن. فتحقيق الأمن هو الواجب الأول لكل حكومة. وفي المحصلة فإن العنف الأعمى حرب على الشعب والحكومة معا.
ومع ذلك يمكن ملاحظة ان الشعب لا يجد نفسه من الناحية الفكرية والعاطفية في جبهة واحدة مع الحكومة ضد الارهاب، رغم انهما موضوعيا كذلك. فكلما وقع حادث عنيف يكون رد الفعل الأول، الغاضب، على الحكومة. وهذا طبيعي، أولا لأن الأمن مسؤوليتها، وثانيا لأن الارهابيين كائنات تعمل في السر تحت الأرض. وثالثا لأن هؤلاء لا يمكن الغضب عليهم او معاتبتهم، لأنهم أصلا مجرمون خارجون عن القانون، فضلا عن كونهم مجهولين بلا عنوان لكي تطاردهم الناس، أو تصب عليهم اللعنات.
إن مشكلة العنف بين عدو مجهول وآخر معلوم تكون عادة عصية على الفهم، وبالتالي على الحل. فالهدف من العنف المتبادل بين عدوين يعرف أحدهما الآخر هو أن يتألم كل منهما من عنف الآخر، وعندما يزيد ألم أحدهما، أو كليهما، عن الحد، ويتجاوز القدرة على الاحتمال، تنشأ امكانية المصالحة بينهما. ولكن هذه هي حالة "العنف الواعي"، أي العنف بين عدوين يعرف أحدهما الآخر، ولكل منهما أهداف معينة يريد تحقيقها من الآخر.
أما العنف الأعمى فهو ارادة من دون هدف. أو دون هدف عقلاني، يقبله العقل نوعا من القبول. إنه إرادة انزال أكبر كمية من الألم بالعدو، دون سعي الى تحقيق أهداف معينة محددة منه. فأي هدف ملموس يمكن تحقيقه بتفجير سيارة مفخخة في سوق؟ ماذا وراء نشر الخوف بين الناس اذا كان هذا هو الهدف؟ أو ماذا وراء تأكيد أن الحكومة ضعيفة وغير مسيطرة اذا كان هذا هو الغرض؟ ان هذا الغرض أو ذاك الهدف يمكن أن يكون مفهوما، من دون أن يكون مشروعا بالطبع، اذا كان وراءه تطلع الى استلام السلطة، أو التعبير عن القدرة على توليها.
وقد لا يكون من المحال أن يحرِّك مثل هذا الطموح رجال العنف الأعمى. ولكنه حتى في هذه الحال يظل أعمى. ذلك انه تطلع الى المستحيل.
إن الهدف ليس أهم ما في موضوع العنف الأعمى، وانما وجوده بحد ذاته، والأسباب التي تنشىء وتغذي هذا الوجود. انه علامة مقلقة للغاية. بل مرعبة. فمن أي جزء من "ثقافتنا الإجتماعية" يصدر هذا العنف؟ وكيف جعله هذا الجزء ممكنا؟ ولماذا لم تحملنا آثاره على تحويله الى معرفة؟ ومن دون هذه المعرفة كيف يمكن فهم معاناة ضحاياه وإنصافهم؟ بل كيف يمكن القضاء عليه؟ وكيف تَلَخَصَ حضوره في الإعلام بلغة الأرقام والكميات، وليس باللغة والصورة الدرامية التي تعكس تأثر المجتمع به وتألمه منه؟ ولماذا صارت حوادث العنف عندنا تبدو وكأنها أخبار تأتي من كوكب آخر؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram