لا يكاد يمر يوم دون وقوع حادث واحد على الأقل من حوادث العنف الأعمى، بصورة عبوة ناسفة او سيارة مفخخة أو عملية انتحارية. أما الاغتيالات فلا يمكن تصنيفها ضمن فئة العنف الأعمى، نظرا لاستهدافها أشخاصا معينين من السياسيين أو الأمنيين.
ويوصف العنف بالأعمى لانه يضرب خبط عشواء، ويكون ضحاياه من الناس العاديين باختلاف شرائحهم وفئاتهم. وهدفه المباشر اشاعة الذعر العام، والحاق خسائر روحية ومادية مؤثرة. فالناس هم العدو الأول لـ "العنف الأعمى"، لأنهم المقصودون المباشرون به. والحكومة بالطبع هي الأخرى مستهدفة بهذا العنف، وإن بطرق غير مباشرة. فوجوده بحد ذاته بمثابة اعلان عن قصور في قدرة الحكومة على ضبط الأمن. فتحقيق الأمن هو الواجب الأول لكل حكومة. وفي المحصلة فإن العنف الأعمى حرب على الشعب والحكومة معا.
ومع ذلك يمكن ملاحظة ان الشعب لا يجد نفسه من الناحية الفكرية والعاطفية في جبهة واحدة مع الحكومة ضد الارهاب، رغم انهما موضوعيا كذلك. فكلما وقع حادث عنيف يكون رد الفعل الأول، الغاضب، على الحكومة. وهذا طبيعي، أولا لأن الأمن مسؤوليتها، وثانيا لأن الارهابيين كائنات تعمل في السر تحت الأرض. وثالثا لأن هؤلاء لا يمكن الغضب عليهم او معاتبتهم، لأنهم أصلا مجرمون خارجون عن القانون، فضلا عن كونهم مجهولين بلا عنوان لكي تطاردهم الناس، أو تصب عليهم اللعنات.
إن مشكلة العنف بين عدو مجهول وآخر معلوم تكون عادة عصية على الفهم، وبالتالي على الحل. فالهدف من العنف المتبادل بين عدوين يعرف أحدهما الآخر هو أن يتألم كل منهما من عنف الآخر، وعندما يزيد ألم أحدهما، أو كليهما، عن الحد، ويتجاوز القدرة على الاحتمال، تنشأ امكانية المصالحة بينهما. ولكن هذه هي حالة "العنف الواعي"، أي العنف بين عدوين يعرف أحدهما الآخر، ولكل منهما أهداف معينة يريد تحقيقها من الآخر.
أما العنف الأعمى فهو ارادة من دون هدف. أو دون هدف عقلاني، يقبله العقل نوعا من القبول. إنه إرادة انزال أكبر كمية من الألم بالعدو، دون سعي الى تحقيق أهداف معينة محددة منه. فأي هدف ملموس يمكن تحقيقه بتفجير سيارة مفخخة في سوق؟ ماذا وراء نشر الخوف بين الناس اذا كان هذا هو الهدف؟ أو ماذا وراء تأكيد أن الحكومة ضعيفة وغير مسيطرة اذا كان هذا هو الغرض؟ ان هذا الغرض أو ذاك الهدف يمكن أن يكون مفهوما، من دون أن يكون مشروعا بالطبع، اذا كان وراءه تطلع الى استلام السلطة، أو التعبير عن القدرة على توليها.
وقد لا يكون من المحال أن يحرِّك مثل هذا الطموح رجال العنف الأعمى. ولكنه حتى في هذه الحال يظل أعمى. ذلك انه تطلع الى المستحيل.
إن الهدف ليس أهم ما في موضوع العنف الأعمى، وانما وجوده بحد ذاته، والأسباب التي تنشىء وتغذي هذا الوجود. انه علامة مقلقة للغاية. بل مرعبة. فمن أي جزء من "ثقافتنا الإجتماعية" يصدر هذا العنف؟ وكيف جعله هذا الجزء ممكنا؟ ولماذا لم تحملنا آثاره على تحويله الى معرفة؟ ومن دون هذه المعرفة كيف يمكن فهم معاناة ضحاياه وإنصافهم؟ بل كيف يمكن القضاء عليه؟ وكيف تَلَخَصَ حضوره في الإعلام بلغة الأرقام والكميات، وليس باللغة والصورة الدرامية التي تعكس تأثر المجتمع به وتألمه منه؟ ولماذا صارت حوادث العنف عندنا تبدو وكأنها أخبار تأتي من كوكب آخر؟
العنف الأعمى
[post-views]
نشر في: 25 يناير, 2013: 08:00 م