TOP

جريدة المدى > عام > اقتراح متواضع..حلول لمشاكل لم تتغير عبر أكثر من قرنين

اقتراح متواضع..حلول لمشاكل لم تتغير عبر أكثر من قرنين

نشر في: 28 يناير, 2013: 08:00 م

في عام 1729 نشر جوناثان سويفت (1667-1745 )، الذي اشتهر بكتاب رحلات غاليفر الأربع: في بلاد الأقزام، والعمالقة، والجزيرة العائمة، وبلاد الخيول التي تحكم البشر، مقالاً بعنوان "اقتراح متواضع" قدم فيه بسخرية لاذعة حلاً لمشكلة الفقر والمجاعة في إيرلندة. "ا

في عام 1729 نشر جوناثان سويفت (1667-1745 )، الذي اشتهر بكتاب رحلات غاليفر الأربع: في بلاد الأقزام، والعمالقة، والجزيرة العائمة، وبلاد الخيول التي تحكم البشر، مقالاً بعنوان "اقتراح متواضع" قدم فيه بسخرية لاذعة حلاً لمشكلة الفقر والمجاعة في إيرلندة. "اقتراحه المتواضع" هو أن يتحول الأطفال الرضع في إيرلندة إلى سلعة. تتم تربيتهم كما تربى الماشية ليوضعوا في نهاية الأمر على موائد طعام الميسورين، فلا يجربون الجوع، ويوفرون لأهلهم بعض النقود التي تعينهم على العيش.
 فالأطفال المولودون حديثاً، في الأسر الفقيرة كبيرة العدد، حسب تحليله الساخر، عبء ثقيل، فهم غير منتجين في زمن انتشرت فيه عمالة الأطفال، مجرد أفواه مفتوحة يتوجب ملؤها.  وهناك أطفال غير شرعيين، يتحولون إلى شحاذين في الشوارع الفقيرة، وآخرون أيتام، وأطفال لا يريدهم أهلهم. وقدم سويفست في مقالته الشهيرة حساباً دقيقاً لما يمكن أن يدره بيع الأطفال الرضع على الأسرة الفقيرة. حققت المقالة في وقتها ما أراده جونثان سويفت، أثارت ضجة كبرى لأنها تخدش حدود إنسانية معظم الناس، لما فيها من قسوة تفوق خيال البشر.  صرخة احتجاج شديدة اللهجة على الأحوال الاقتصادية المتردية في أيرلندة في ذلك الوقت. ومازالت تعتبر من أقوى ما كتب ضد الفقر والظلم في تاريخ الأدب الإنكليزي.  
كان الأدب الساخر على مر العصور من أفضل المصادر التي تتيح فهم تاريخ المجتمعات.  بل هو من أقدم أشكال الدراسات الاجتماعية، التي تقدم رؤية عميقة في سيكولوجية المجتمع وتكشف قيمه ومكامن القوة والضعف فيه.  بل رأى العديد من الكتاب أن الأدب الساخر يتفوق على بعض الأنماط المتعارف عليها لتدوين المجتمعات، كالدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية.  فالسخرية اللاذعة تجلب ابتسامة ترغم العقل على التفكير العميق.  لذلك حين سئل فيلسوف الأغريق إفلاطون عن أفضل كتاب يشرح المجتمع الأثيني، أجاب بكل بساطة "مسرحيات أريستوفان الساخرة".  بل إن كم الأدب الساخر في أي مجتمع من المجتمعات يعتبر مرآةً لما يتمتع به من حرية التعبير والديمقراطية.
لعل السر في سخرية سويفت الشاعر، وكاتب المقالات، ورجل الدين الذي يحمل شهادة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة ترينيتي في إيرلندة، أنه عاش طفولة قاسية وخبر الفقر والحرمان.  فقد توفي والده الذي جاء من انكلترا للعمل في دبلن، قبل مولده، مما جعل والدته تقرر العودة إلى إنكلترا وتتركه طفلاً صغيراً في رعاية عمه.  فعاش اليتم والفقر، واستوعب معاناة مدينة دبلن الاقتصادية والاجتماعية، في زمن كانت إيرلندة تعاني فيه من مجاعات تتكرر باستمرار. لذلك كتب سويفت العديد من المقالات الساخرة التي تنتقد بعنف الأوضاع السياسية والاجتماعية، في أيرلندة.
لم يتخل سويفت عن سخريته في كل نتاجه الأدبي، رحلات غالفير الأربع تعتبر من عيون الأدب الساخر.  البعض يراها قصصاً للأطفال خاصة رحلات غاليفر في "بلاد الاقزام" و"بلاد العمالقة"، ويراها آخرون مثالاً مبكراً على روايات الخيال العلمي، أو مثالاً للرواية العصرية.
نشرت رحلات غاليفر عام 1727، بعد أن حذفت منها مقاطع كي لا تثير غضب الأسرة المالكة البريطانية. يرى بعض النقاد أن رحلات غاليفر ردّ على رؤية دانيال ديفو المتفائلة، عن عطاء النفس البشرية في رواياته الشهيرة "روبنسون كروزو"، وأن الفرد يسبق المجتمع، كما يطرح توماس هوبز في فلسفته السياسية المتطرفة.  لذلك فالمجتمعات التي يزورها غاليفر في رحلاته، مجتمعات ذات بنية قوية عليه أن يتعامل معها، على عكس جزيرة روبنسون كروزو الخالية.  يسخر سويفت في "رحلات غاليفر" من أوربا وتعصبها الديني وحروبها التي تفتقر لأسباب حقيقية، ثم يتساءل: هل يولد الإنسان فاسداً أم يتعلم الفساد؟  ويعرج على الصراع الدائم بين القديم والحديث، بأسلوبه الساخر، بل يجعل أسباب وصول بطله البحّار غاليفر، إلى تلك الجزر تزداد سوءاً.  في البداية تتحطم سفينته، وفي الرحلة الثانية يتخلي عنه أصحابه، وفي الثالثة، يتعرض لهجوم من أغراب، وفي آخر رحلاته يهاجمه بحارة سفينته.  هل كان يريد أن يقول أن الزمن يزداد قسوة؟  
اليوم، أجد نفسي أراجع سخرية جوناثان سويفت اللاذعة، وأنا أرى عالمنا في القرن الحادي والعشرين يعاني من معظم ما كان يعانيه في أوائل القرن الثامن عشر، من جوع وفقر وأمراض وأمية وفساد، أصبحت كلها من مسلمات العصر، بعد أن قسمنا عالمنا بخط وهمي يفصل بين الغنى والفقر، ومنحنا أجزاءً منه أرقاماً، توضح مدى فقره وتخلفه وتفشي الأمية فيه.  فكل المصائب تجتمع في ما أسميناه العالم الثالث. ولو كان جوناثان سويفت موجوداً في عصرنا لوجد مادة غنية للسخرية منا ومن عالمنا العربي الثالث، الذي قدم الكثير للعالم الأكثر تحضراً عبر العصور.  
وحول مفهوم هل يسبق الإنسان المجتمع، كان سيسعد سويفت كثيراً أن يكتب عن ربيعنا الزاهي والديمقراطية التي أرخت سدولها على العالم العربي، وسيستهويه بلا شك عصر الانتخابات النزيهة الحرة الشفافة، كالزجاج الفينيسي الفاخر، وكيف تتم بإشراف لجان دولية معتمدة في كل عاصمة عربية أورق ربيعها وأزهر، بعد أن انتهى زمن تجديد الرئاسات أو تمديدها مع امتداد العمر، أو حتى توريثها للأبناء. لكنه كان بلا شك سيندهش كثيراً من الحكام الجدد الذين انتخبتهم شعوبهم بعد ثورات أو حروب دامية، ويتساءل لم لا يختلفون كثيراً عمن أطاحت بهم تلك الحروب والثورات؟  
أما أكثر ما كان سيثير سويفت، فهي رغبة البعض منا في التراجع إلى ماضٍ سحيق في تاريخنا ما عاد يتناسب مع زمننا، وسيحزنه كثيراً أن نتنازل عن تطورنا الحضاري والفكري والإبداعي منذ مطلع القرن العشرين وجاهد من أجله نساء ورجال. سيدهش سويفت حين يرى ما حل بنسبة كبيرة من النساء العربيات، بعد أن يدقق النظر طبعاً، حيث سيصعب عليه أن يجدهن تحت لفائف القماش الأسود، فيما يلهو عدد لا يستهان به من الرجال العرب، مع حسان يلبسن ملابس لا يكفي قماشها كله نصف غطاء رأس لمن ملكت أيمانهم. ولن يفوته أن يرى حال أهل الفكر والأدب وسطوة من يداهنون منهم أصحاب المال والسلطة، تحت مسميات تصل أحياناً إلى البحث العميق في التاريخ والفلسفة، يحصدون من أجله الجوائز من دول مصنفة ضمن "العالم الثالث"، رغم قدرتها على منح الجوائز وإقامة المهرجانات بأنواعها، في حين يلزم الكثيرون من المبدعين الصمت ويطوي أعمالهم النسيان. لا أستغرب أن يدهشه ذلك إلى حد قد يعجز أشهر الأدباء الساخرين عن السخرية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

"إسرائيل" تقصف منشأة أسلحة لحزب الله في لبنان

القبض على قاتل الصحفي ليث محمد رضا

رئيس مجلس ديالى ممتعض من تحركات استجوابه: لن أرضخ لإقالتي

الأمم المتحدة تبدي موقفاً بشأن "الاعتداء" على عمّال سوريين في العراق

روسيا توافق على وقف إطلاق النار مع أوكرانيا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: تصنيف الأعمال الموسيقية

الجندي الأمريكي والحرب

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

سحر محمول أغنية حب للكتاب.. من فجر التاريخ حتى ببليوغرافيا هتلر

مقالات ذات صلة

متعةُ وكشوفٌ لاتضاهى في قراءة الأعمال الكلاسيكية
عام

متعةُ وكشوفٌ لاتضاهى في قراءة الأعمال الكلاسيكية

لطفية الدليمي ربما تكون جائزة البوكر العالمية للرواية هي الجائزة الأعلى مقاماً بين الجوائز الروائية التي نعرف، ولعلّ من فضائلها أنّها الوسيلةُ غير المصرّح بها لتعريف القارئ العالمي بما يُفتّرّضُ فيه أن يكون نتاجاً...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram