بعد ما يقارب العامين من أبشع وأحط أشكال القتل التي تعرض لها المواطن السوري، بعد أكثر من ستين ألف قتيل ومئات آلاف اللاجئين إلى دول الجوار فراراً من ظلم ذوي القربى، وبعد أن نطق رئيس الوزراء الروسي ميدفيديف جوهرةً فحواها أن فرص احتفاظ بشار الأسد بالسلطة تقل أكثر وأكثر يومياً، وأنه كان يتعين عليه التحرك بسرعة أكبر، ودعوة المعارضة السلمية التي كانت مستعدة للجلوس إلى طاولة المفاوضات معه، وأنه ارتكب خطأ فادحاً قد يكون قاضياً، وبعد أن سمع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، كلاماً قاسياً من زعماء العالم في مؤتمر دافوس فإنه تكرم باتخاذ موقف يتسم بالغموض وإن رأى البعض فيه جانباً إيجابياً لجهة دعم موقف المعارضة السورية بينما اشتم منه آخرون رائحة صفقة يتم التداول بشأنها بين موسكو وواشنطن وعواصم أخرى أقل أهمية.
بشرنا أوباما في مستهل رئاسته الثانية أنه يعمل على تقييم ما إذا كان التدخل العسكري في سوريا سيحدث فرقاً في حل الوضع السوري المتأزم، أم أنه سيؤدي إلى تفاقم الأمور، وقال إن من المهم عنده الحصول على أجوبة حول الفروق التي سيحدثها التدخل، وهل يمكن لذلك أن يؤدي إلى المزيد من العنف أو إلى استعمال الأسلحة الكيماوية، وما هو الخيار الذي يوفر أفضل احتمال لنظام مستقر بعد الأسد، وفي نبرة أرادها أن تصطبغ بصبغة أخلاقية قال إن إدارته تريد التأكد من أن التدخل الأمريكي فيما يجري في سوريا لن يأتي بنتائج عكسية، وأنه لا يريد الإقدام على أمر من دون درس عواقبه بشكل كامل.
من المهم الرط بين هذه التصريحات، وبين ما يقال عن نقل بعض أسلحة الأسد الكيماوية إلى لبنان، وقناعة إسرائيل بأن أيام الرئيس السوري أصبحت معدودة في الحكم، وأن سقوط نظامه أصبح وشيكاً جداً، مع مايثيره ذلك من مخاوفها من وقوع أسلحته تحت سيطرة مجموعات من الثوار قد تقوم باستخدامها في أية لحظة ضدها، وهي بدأت فعلياً في التحرك لمواجهة كل الاحتمالات، فنصبت بطارية صواريخ واحدة على الأقل بالقرب من الحدود مع سوريا ولبنان، فيما يلاحظ المراقبون أن الحركة في تل أبيب ليست طبيعية، حيث يعقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اجتماعات ماراثونية متواصلة مع قادة الجيش والمخابرات والوزراء المهمين في الحكومة، ما يوحي بأن ثمة حالة استنفار أمنية في إسرائيل، وهو الأمر الذي يرجح غالبية المراقبين أنه على صلة بمرحلة ما بعد انهيار نظام الأسد، وتأثيرات ذلك على الدولة العبرية.
تأتي هذه التطورات السياسية المتلاحقة، بعد عزوف مشبوه عن دعم المعارضة السورية، حدّ حجب السلاح النوعي عن مقاتليها، الذين انتقلوا لجهدهم الذاتي مؤخراً إلى ما يشبه حرب الشوارع في العاصمة، بعد سيطرتهم على أجزاء مهمة من ريفها، حيث يقوم "حماة الديار" بقصف مدفعي وصاروخي عنيف على معظم مدن وبلدات سوريا وصولاً إلى حي برزة الدمشقي ومخيم اليرموك، في حين تتقوى يوما بعد يوم شوكة المتطرفين من "الجهاديين"، الذين سمح لهم التواطؤ الدولي بالدخول في جسد الثورة، لتتحول المعركة ضد النظام إلى حرب أهلية لاتبقي ولاتذر، ونتيجتها المعروفة هي تقسيم الدولة السورية، والقضاء على أي أمل بتحولها إلى دولة ديمقراطية.
رائحة الصفقة المشبوهة تفوح، وفيها تتم التضحية بالرئيس الأسد، والحفاظ على نظامه وأمن طائفته، خشية وقوع البلاد بيد جبهة النصرة، التي يجري تضخيم دورها لإثارة ذعر العالم من طالبان ثانية تنشأ على حدود إسرائيل، وكل حديث عن الأخلاق ليس أكثر من لغو، وكل بكاء تمساحي على الشعب السوري لايستهدف غير التغطية على كون العالم خلا من القيم، ولم يعد عيباً عنده التضحية بشعب كامل على مذبح مصالحه.
سوريا والصفقة المشبوهة
[post-views]
نشر في: 29 يناير, 2013: 08:00 م