في المدخل الاستهلالي لسلسلة البرامج التلفزيونية «ممالك إفريقيا المجهولة» يحيل معدها ومقدمها المؤرخ غاس غاسلي ـ هافورد سبب قلة ما كُتب عن تاريخ القارة الأفريقية إلى النظرة الاستعمارية القديمة التي تعاملت مع سكانها بنوع من التعالي العنصري و
في المدخل الاستهلالي لسلسلة البرامج التلفزيونية «ممالك إفريقيا المجهولة» يحيل معدها ومقدمها المؤرخ غاس غاسلي ـ هافورد سبب قلة ما كُتب عن تاريخ القارة الأفريقية إلى النظرة الاستعمارية القديمة التي تعاملت مع سكانها بنوع من التعالي العنصري وباعتبارهم أقواماً همجية لا حضارة عندهم... علماً أنهم يمثلون الأصول البشرية التي توزعت في جهات الأرض كلها، وعلى أرضهم شُيدت حضارات عمرها آلاف السنين وتأسست فيها ممالك كبيرة، مثل «النوبية» في السودان وفي شمالها أقام «المرابطون» و»الموحدون» دولاً قوية توسعت وعبرت إلى أوروبا وساهمت قبائل «الزولو» في تغيير وجه المنطقة بمقاومتها مستعمري القرن الثامن عشر في جنوب إفريقيا لعقود طويلة، وظهور مملكة «أشانتي» التي تعد من أهم وأكبر حضارات الغرب الأفريقي.
حاولت البرامج الأربعة التي أنتجها التلفزيون البريطاني «بي بي سي» التنقيب في تاريخ تلك الممالك، وسعت للربط بينها وبين ورثتها من سكان المنطقة الذين ما زالوا يعيشون فيها حتى اللحظة، كدليل على ديمومة التواصل الحضاري بين الأجداد بناة ممالكها العظيمة وبين أحفادهم المعاصرين.
بوصفه دارساً للتاريخ الأفريقي لم يجد غاسلي ـ هافورد صعوبة في تحديد وجهته والمناطق التي يريد توثيقها، ومع هذا كان يستعين ببعض سكان المنطقة أو علمائها. وفي جولاته لدراسة مملكة «نوبيا»، اصطحب عالم الآثار السوداني محمود بشير الذي ساعده في الربط بين تاريخ المملكة وامتداد موروثها الحضاري بين نوبيي جنوب السودان، من خلال فحص المفردات المشتركة بينهما، مثل طريقة بناء المنازل وأساليب الزراعة والتقاليد الاحتفالية من رقص وموسيقى.
يعود تاريخ مملكة النوبيا، انطلاقاً من دراسة الرسوم التي زينت سطوح جبال المناطق المحاذية لنهر النيل والممتدة بين حدود مصر والسودان، الى سبعة آلاف سنة قبل الميلاد. أقام ملوكها في مدينة «كرما» واتخذوا من «ديفوفا» لهم معبداً يمارسون فيه طقوسهم الدينية ويقدمون الأضاحي ويرقصون وسط ساحته في احتفالاتهم. والغريب أنه وبعد قرابة أربعة آلاف عام ما زال سكان المنطقة يجتمعون في الأمكنة ذاتها ويقيمون احتفالاتهم الاجتماعية فيها، وما زالت آلة العزف الصخرية التي عرفت بـ»الصخرة الرنانة» تُستخدم اليوم وبأشكال متقاربة عما كانت عليه من قبل. وفي ما خصّ طريقة البناء، يتبين أن النوبيين سبقوا الفراعنة في بناء الأهرامات وإن كان حجمها أصغر، فيما حافظ الناس على طريقة بناء البيوت ذاتها تقريباً... أما عدوهم الأول فكانت الصحراء. لاحقتهم في الماضي وظلت تلاحقهم حتى اللحظة، وإذا كان شح المياه سبباً في ضمور حضارتهم ومصدر حروبهم مع جارتهم مصر، فالآن، وبحسب البرنامج، يكاد الصراع على الأراضي الخصبة والماء يكون سبباً من بين أسباب صراع منطقة دارفور.
في المغرب قال غاسلي ـ هافورد انه جاء لدراسة الكيفية التي تمكن بها البدو من إقامة مملكة «المرابطون» القوية، ولرؤية الشواهد الحية التي تركوها وراءهم وعلاقة نمط عيش سكان المناطق التي بنوا فوقها مملكتهم في وقتنا هذا.
سكن البربر المنطقة منذ آلاف السنين وتحدثوا بلغتهم، لكنهم لم يقيموا دولة قومية لهم. اعتنقوا الإسلام وظلوا يزاوجون بين تعاليمه وبين تقاليدهم الموروثة، حتى جاء الصنهاجي عبد الله بن ياسين الذي وضع لنفسه هدفاً بأن يلزمهم بتطبيق تعاليم الإسلام كاملة، فأسس عام 1054 جيشاً له من البدو الرحل أطلقوا على أنفسهم: «المرابطون». أولى المناطق التي دخلوها كانت «سجلماسا» وهي واحة غنية ومركز تجاري مهم اشتهرت بتجارة الذهب. وبعدما اغتنى فيها أراد مواصلة حملته عبر جبال الأطلس واتخذ من مدينة «أغمات» مركزاً وبعد رحليهم تركوا فيها نظام ري متطوراً وبنوا فيها حمامات هي أهم ما تركوه من إرث مازال قائماً حتى يومنا. وبعدما صار له ما أراد فكر بن ياسين بالانتقال الى منطقة أخرى مفتوحة، فهو لم يحب المناطق الضيقة، فبنى عام 1070 مدينة سمّاها «مراكش». كل معالم المدينة تقريباً من أسوار وقصور وأسواق هي ذاتها التي بناها بن ياسين ومن بعده يوسف بن تاشفين. صدى التاريخ يسمع اليوم في مدينة مراكش. يأتي من جنبات حواضرها، من أسواقها وطريقة تصميم بيوتها ومن طين أسوارها الأحمر. جولة البرنامج بيّنَت كيف أن مراكش زاوجت بين نمط حياتها العصرية وبين موروثها القديم، حتى بناتها الأوائل وحين توسعوا خارجها نقلوا الإرث ذاته معهم الى اسبانيا والبرتغال. بدرجة مقاربة يصح الحديث عن تجربة «الموحدين» الذين بنوا مملكتهم على حساب «المرابطين»، فمدينة فاس التي اتخذها محمد بن تومرت مركزا له تتقاسم نمط عيشها اليوم مع ما ورثته من معرفة وحضارة تركها لهم «الموحدون» الأوائل.