الوعي البشري انتقائي بطبعه، لأنه لا يستطيع التركيز على كل الأشياء المحيطة به، فيختار ما يثيره منها، كالتي يحبها أو يؤمن بها أو يحتاجها. ولذلك، وبسبب إيماني بالحتمية وكرهي لها، أريد أن أروي لكم هذه المأساة، كعلامة على جرائم الحتمية:
خلال ذهابي، قبل يومين، إلى مستشفى بغداد التعليمي بصحبة والدي الذي يأخذ، بشكل دوري، جرعات من الدم. التقيت بأحد أقربائي، وسألته عن سبب تواجده في المستشفى، وأثار انتباهي أنه يحرس سجيناً مصاباً بسرطان الدم. وقصة هذا السجين أنه؛ شاب من مواليد محافظة الديوانية، 1990، متهم بمحاولة سرقة محل تجاري، ومحكوم عليه بالسجن لـ(15) سنة، أصيب باللوكيميا في السجن، ولأن التشخيص بطيء هناك، والاجراءات الإدارية هائلة، لم يحصل على حقه بالعناية الطبية إلا بعد أن استفحل المرض بجسده النحيل. لحد الآن القصة طبيعية وخالية من المأساة، لكن المشكلة أن أهل الشاب فقراء إلى درجة لا يملكون معها أجرة السفر إلى بغداد لزيارته، فضلاً عن العناية به، ومعروف أن سرطان الدم يحتاج إلى عناية صحية مركزة وإجراءات نظافة مصحوبة بحمية غذائية مبالغ بها، فمناعة المريض تكون عرضة للانخفاض الشديد، ما يجعله عرضة للموت بسبب أي مرض بسيط.
على هذا الأساس لم يحصل هذا الشاب على ترف زيارة أهله، إلا مرتين وعن طريق حملة جمع تبرعات قام بها الشرطة المسؤولون عن حراسته.. لحد الآن القصة ليست مأساوية بالنسبة لي؛ لأنني عراقي لا تثيرني إلا الكوارث، لكن الحزن هز قلبي عندما أكد لي قريبي بأن فرص نجاة المريض اصبحت معدومة. وبأنه اتصل بوالده ليخبره بالخبر ويطلب منه زيارة ابنه قبل موته، لكنه بكى بشدة وأخبره بأنه لا يستطيع تأمين أجور النقل، ثم أقسم له، باكياً، أن ابنه مظلوم، وأن التهمة ملفقة له من قبل شاب ينافسه على حب فتاة في المنطقة!.
يا إلهي، صرخت بيني وبين نفسي: كيف يمكن أن تشتبك خيوط المأساة لهذه الدرجة، شاب في بداية عمره، يتورط بالسجن، ثم يصاب بمرض خبيث، ومع ذلك لا يستحق ترف الموت بين أهله وتحت رعايتهم ومواساتهم والسبب هو فقرهم المدقع، مع أنهم مواطنو بلد بترولي!!
أخيراً اضطررت إلى الانصراف للعناية بوالدي الشيخ وأنا بالكاد اتمكن من حبس دموعي، وألعن جرائم الحتمية، وأتساءل: على أي أساس اضطر هذا الشاب إلى مواجهة هذا المصير بدل مصير آخر يكون أكثر ترفاً وسعادة؟ ولا تقولوا لي بأنه مجرم ويستحق هذا المصير، لأنني لن اكتفي بإخباركم، أن الأقدار التي حرمته من أن يكون مواطناً امريكيا او بريطانياً أو حتى خليجياً، تعسفت بحقه، فعلى الأقل سيحظى هناك بحقوق إنسانية تليق بالبشر المجرمين، بل سأقول لكم أيضاً: لو كان ابناً لأحد الفاسدين المترفين ـ الذين سلبوه حقوقه بسبب دونيتهم ـ لما اضطر لمواجهة مصير السجن ومصير المرض ومصير الحرمان من رعاية الأهل في آن واحد. فكل هذه المصائر اجتمعت عليه دفعة واحدة بسبب نزوله من رحم أمه وسط عائلة فقيرة جداً تعيش في بلد لم يوفر الترف لمواطنيه طوال تاريخه المر.
جميع التعليقات 1
فراس فاضل
مو مشكله ياضمد --المهم الله يطول بعمر المالكى والنجيفى والشهرستانى --مو مشكله اللى يموت اخى مازال الحراميه الكبار يخمطون زين--تمنيت ان يكون هذا الشاب هنا فى السويد لكان الاطباء والاختصاصين يزورونه فى البيت للاطمئنان على صحته كما فعلوا مع والدتى --لكم تحي