(1) في وقت مبكر من صولة الفرسان، وكانت البصرة ميدان عملياتها، توقفت عند مؤشراتٍ تُغري بالتفاؤل وتفتح باب الأمل الذي طال انتظاره. فالصولة كانت ترفع شعاراتٍ تندد بالطائفية وتمجد قيم المواطنة وتبشر بنزع فتيل الفتن وتلامس، ولو باستحياء وتَرَدُد، الأماني
(1)
في وقت مبكر من صولة الفرسان، وكانت البصرة ميدان عملياتها، توقفت عند مؤشراتٍ تُغري بالتفاؤل وتفتح باب الأمل الذي طال انتظاره. فالصولة كانت ترفع شعاراتٍ تندد بالطائفية وتمجد قيم المواطنة وتبشر بنزع فتيل الفتن وتلامس، ولو باستحياء وتَرَدُد، الأماني المهزومة لدى العراقيين بالعودة الى الدولة المدنية أو تخومها.
وأُصدق القول انني كدت يومها أن اكتب مقالاً لم اكتب مثله يوماً، لكنني خشيت اتهامي بالنفاق والوصولية. وقد اخترت للمقال عنوان: رجل دولة من عباءة الاسلام السياسي!.
وفكرت: من هو رجل الدولة اذا لم يكن هو الداعية لتكريس دولة القانون والمؤسسات.؟ ومن هو رجل الدولة اذا لم يكن هو من يُدين الطائفية السياسية ويستنكر فتنها ويُبَشّع ممارساتها ويقيم للعدل ميزان المساواة..؟
وقلبت افكاري ملياً وبروية، مثلما قَلّبتُ ملامحه وأوضاعه وبنية افكاره، بعد ان بَلَغَتني شائعة من مثقفٍ مريدٍ على تماس بالرجل، انه لم يُمانع في ان يُضَيّف زائريه من المثقفين الذين أوحى لهم بتناول ما يريدون بعد أن يترك مجلسهم.! لم أفهم الاشارة لانني شخصياً لست معنياً بمآكل الناس ومشاربهم، وليس لذلك علاقة بما انا أبحث عنه في خصائص الرجل ومواقفه الشخصية، وما يحلل أو يحرم، ما دام يتعفف في تجاوز حقوق الناس وحرماتهم، ولا يمس حرياتهم وما ينص عليه الدستور والقانون في أحوال البلد وأمور الرعية.
نحن أمام حالة جديدة، وسط ظاهرة خرابٍ تتسبب بها سياسة المحاصصة الطائفية والقتل والتمييز على الهوية. فهل يمكن لهذه الحالة أن ترتقي الى مستوى التطلعات المهمومة المشككة وتدشن مرحلة الانتقال من ما قبل الدولة وشظاياها الى دولة أو شبه دولة مدنية..؟ وهل الظروف لهذا الانتقال مواتية؟ وهل لمثل هذه الحالة من قاعدة بين حيتان المحاصصة وعلّاستها..؟
(2)
يومها، تدفقت رسائل التأييد والدعم من الكل، العرب السنة اولاً، ثم الكرد ثانياً، واطياف الشيعة ثالثاً، وقبلها، بادر الرئيس جلال طالباني لتجييش الدعم السياسي والاعلامي والمعنوي للصولة، واصبح السند الاول لصاحبها. ومذ ذاك تحولت الحالة الطارئة التي انبثقت من رحم الصدفة وردود الافعال اليائسة الى تحدٍ ورهانٍ وقلق على احتمالات الفشل والنكوص بعد ورود انباء عن حصارٍ قد يودي بالصولة التي تجرأ بها صاحبها على أبناء ملته.
وبقي الرهان على حسن الطوية البشرية وما اذا كانت بمستوى تحدي اغراءات السلطة واغوائها في لحظات التحلل والانفراد في الخلوة مع شياطينها.
وسقط الرهان قبل ان أباشر الكتابة عن مشروع رجل دولة..!
ومع سقوط الرهان الاول تابعت بحذر التكوين الجنيني لمشروع يدشن تراجعه امام اغواء السلطة، ويبدأ بحثه عن عناصر تكوينه الجديد، ووسائل تطويع صولته لتتلاءم مع نزوعه نحو اغتصاب السلطة واختلاق ادوات تبريرات شرعنتها، ليصبح الاغتصاب قاعدةً لـ " دولة القانون "..!
(3)
مضت الولاية الاولى لحائك جلباب دولة القانون في مسعىً لا ينقطع، لاستكمال عملية الاغتصاب وتكريسها، لتتحول الى عادة، يستبيح بالاستناد الى قاعدتها الفقهية المستحدثة، كل مرافق الدولة ويشوه مبانيها وهياكلها،وليسطو على ضمائر وإرادات ينزع عنها الاحساس بالمسؤولية، ويصنع منها اشباها واشباحا لا ترى ولا تسمع ولا تعي سوى ما يوحى لها.
في تلك السنوات، بان بوضوح ان العراق ينقاد الى دروب المتاهة وان المصائر والارادات الحرة قيدها الغير لحسابه الخاص، وبتنا جميعا رهائن لدى الرهينة المطيع. وفي خضم الصراع للبحث عن خلاص، توهمنا بان المرتهن اذا اصابه الوهن من شدة قيوده واستعاد القوة من الاحساس بالاحتضان وأفاق من سكرة الغيبوبة، قد يعود فيصبح مشروعاً للامل من جديد..!
مرة اخرى سقطنا في غياهب الوهم وعجالة الموقف، فخسرنا الفرصة بنفض غبار الخيبة عن امالنا المحبطة!
ولم نُفَرِّق في خضم التباسات تلك اللحظة الانتقالية بعد فراغ ما بعد الانتخابات التشريعية بين حقيقة الوعود " تُدسّ في عسل الكلام " ووظيفتها في تلبيس الوهم اثواب الحقيقة المرة، كأداة من ادوات الخديعة ووتدٍ لترسيخ سلطة جائرة،وقبل ان نستيقظ، أخذتنا العزة بالاثم، والتمسنا اهون الشَرّين دون ان ندري ان المفاضلة بين الشرور، ام الشرور، وشرٌ اعمى..
(4)
في غمرة الفراغ السياسي الذي دام أشهرا، فقدنا فرصة التمسك بخيار عادل عبد المهدي، وتعامينا عن امكانية ان نحوم حول خيارات اخرى غير مجربة. كان امامنا احمد الجلبي وبحر العلوم وشخصيات عديدة، قد لا تصمد امام اغراءات السلطة، ولست في وارد تزكية اي واحد من المذكورين بعد ان يجلس على الكرسي المسكون بشبهة الاغواء، لكنني اجزم بامكانية تنحيته في اللحظة المناسبة، اذا ما بدرت منه بادرة اعوجاج. وفي كل الاحوال لم يكن ايٌ من الخيارات المطروحة اوغيرها من صميم ما كنت ارى في وضع آخر او ظرف مغاير.
إنما "المكان بالمكين"، والضلالة على من لم يجتهد، فيصيب او يُخطئ!
كنا مهووسين بلعبة التآمر ورفض الاذعان للخارج، وكان هذا ويظل موقفاً وطنياً يجب ان نركن اليه، فخسرنا المناورة على الاحتمالات، واسقطنا سلفاً، ومع سبق الاصرار، مرشحين آخرين لمجرد وضع مسافة بين امانينا واحتمال التعثر في حبائل المتآمرين من وراء الحدود وحاضناتها في الداخل.
قاومنا بقوة الخائف، مع اننا كنا اقوياء بحصانتنا ومازلنا حتى الآن، أي تسللٍ لبعثي او قريب منه، واستُغفلنا حين لم ننتبه الى أننا ونحن نقاوم انما نتحرك في دائرة عراب البعثيين وحاميهم.ثم توجسنا من وشايات وألاعيب الفاسدين، وفقدنا لحظتها حاسة الشم، لنكتشف ان الفاسد واللص هو من يُقسمُ امامنا على الكتاب الكريم، وهو يُداري ابتسامة المتشفي من الغشاوة التي تعمي ابصارنا.
كنا كتلة من الارادة " الوطنية " وسور ممانعة، في مواجهة التآمر والعودة الى دائرة المستحيل والمربع الاول ما قبل التغيير. ولا استطيع اليوم وانا اراجع ان أُبعد ممكنات ذلك الاحتمال، ولا التعامي عما كان يدور، ويُتداول، ولن أُبرئ ساحة من كانوا وراء خلط الاوراق. ولن اعفي اياد علاوي من التماهي في مشروع كان عليه ان يتجنب اهواءه، وان يختار الطريق الذي لا يبدو فيه، كمن ضل الطريق، وهو على مسافة من استدارته. بل على العكس كان امام استحقاق نفض ما عَلِقَ به من وعثاء الطريق الذي غابت عنه معالمه لطوله وكثرة تعرجاته.
لم يكن اياد في وارد ترشيحه من جهة ظلت الشكوك تُساق نحوها بلا قرينة، وحاول البعض الخلط بين العلاقات الشخصية ودواعي المنصب، ولم يجمع بينهما غير الشبهة.
(5)
لم اكتب، لكنني اخطأت في الحالتين عندما توهمت اصلاً بالامكانية الكامنة في رجل جاءت به الصدفة، وحاضنة ظلت اسيرة اضطهادين، الاضطهاد التاريخي المستديم، والشعور الداخلي باضطهادٍ ذاتي قد يواجه لحظة ضياع فرصة الافلات من النسيان. وفي كلتا الحالتين، كنت مُغَيباً، مأسوراً بضغط العجالة القاتلة، وتحدي الاوامر الآتية من بعيد، من البيت الابيض حيث قال لي الرئيس يومها وهو يضحك: كأنك تنتقم من عدوك القديم "الاستعمار."..
والواقع أنني كنت أتلمس طريقي بحثا عما تبقى من أمل في وطن تعبنا جميعاً في جمع اشلائه، ومرتجانا ان يلّمَ ما تبقى من اشلاء احلامنا في دولة تحمي ما تبقى لجيلنا من اعمار وتنهداتٍ وإيماءاتٍ وفرص لمسرات ضاعت وأوجاع ارهقها الحنين..!
(6)
كان من الممكن ان يظل المشروع الوهمي قائماً، لو ان الرجل المشروع لم يجلس على كرسي اوهامه، لو انه لم يحكم لدورة ثانية، فيبدو كما هو عليه مجرد مشروع لا علاقة له بما اوهمنا انفسنا به. بل ما كانت عليه سويته، مشروعٌ لتبديد آمال شعبنا واضاعة فرصته التاريخية بالقبض على حلمه في دولة يستعيد تحت ظلها كرامته المهدورة وانسانيته وقامته التي لعبت بها الاقدار وعبث المستبدين.
(7)
لا ترفعوا شعار: ارحل، للمالكي.
بل دعوه يستنفد كل شهوة الحكم وطاقة الاستحواذ المخادع، فيكشف عن دخيلته بكل خباياها، فيرحل من تلقاء نفسه دون ان يأبه برحيله احد...
لا ترفعوا شعار ارحل، ففي ذلك اغراء له بالبقاء في دائرة الضوء، بعد ان تعود على ومضاتها المخادعة..
دعوه يتخبط كل يوم ويتعثر بارتكاباته، ثم يرحل يرافقه النسيان، ان لم يتعثر بما هو اشد وقعاً عليه..!
لا، لا تدعوه يرحل،قبل ان تكتمل صورته، باعتباره لوحة للفقدان، ومسلة للنسيان!
لا ترحل ففي الوقت متسع لمزيدٍ من الاشتباه والتلبس..
جميع التعليقات 11
هاء
أستاذنا، إنسانيتنا تمنعنا من الاستجابة لما تدعونا إليه في الفقرة الأخيرة من افتتاحيتك بخصوص حاكم ذي نزعة تسلطيّة.. لا رغبة لدينا في الاستمتاع برؤيته يتخبّط ويتعثر لينهار في هاوية ويصير مأساة نحنُ أرفع من أن نتسلّى بها أو أن نتشفى.. لماذا لا تساعدونه على أ
عمر علي
شكرا جزيلا على هذا التحليل الرائع، وعلى كل حال فان المالكي لن يرحل بعد ان تربع على عرش السلطة الغاشمة.انا شخص كبير السن ومستقل الراي اراقب وارى ان المالكي يسير تماما بخطوات صدام حسين وان لا فرق مطلقا بين سلوك قيادة حزب البعث وبين سلوك قيادة حزب الدعوة في
ابو لجين
تجني لا مبرر له
ابن الجنوب
لا شك انها المقالة الانضج والاروع التي اقراها وهي الاسهل والاوضح ...انها تحاكي مخاضات نعيشها كل يوم هذا يكفي لا اريد ان اكيل المديح للمقالة فالحقبقة تبقى ساطعة رغم الظلام ومن يكتب ارفع من امدحه ولكن اقول اليوم اتضح ما كان في الخفاء هناك عمل من القذارة كبي
رياض
قد تبدو صادقا فيما تقول.... ولكن جلد الذات لن ينفعك... كنت عرابا ولاعبا اساسيا في تمرير مخطط اختيار المالكي لولايه ثانيه... مغيبين بلا اجنحة تلهثون وراء مؤامراتكم في ذبح ماتبقى من هذا الوطن..... هل ينفعك الندم يافخري كريم؟ وماذا سيصلح ندمك؟؟؟ كيف لك انت ا
التيار اليساري الوطني العراقي
انهيار نظام المحاصصة الطائفية الاثنية الفاسد والخيار اليساري المنقذ يعترف اقطاب عملية بريمير بأزمة عمليتهم المحاصصاتية لكنهم يكابرون بعدم اعلان موتها,فبعد عشر سنوات على سقوط النظام البعثي الفاشي المقبورعلى يد اسياده الامريكان,وتشكيل مجلس الحكم البريميري
تحسين
أستاذ فخري أتمنى أن تكتب وبصدق عن ألعراق وأن تتخلص من فكرة الدولة الكردية والتي نراها أخذت من أفكارك ألرائعة ألكثير . وألاسماء ألتي ذكرتها متلبسة بالدكتاتورية من دون منصب فكيف اذا تم لها ماتريد.أستاذ فخري في زمن صدام كان لنا الكثير من البعثيين الذين نستفا
علي العراقي
حيةلك ايها الشريف الصادق والامين والله كنا نتمنى ان نقرأ هذا من زمان
ميادة
كم اسعدني هذا المقال .. على الاقل هناك عراقي واحد يعرف كيف يجب ان نتعامل مع من يريد ان يبقى في السلطة الى الابد .. حقا دعوه يستنفذ كل ما عنده وبعدها يسير وحيدا في درب النسيان او ربما انتقام ذوي من قتل ابنائهم في الصولة الاولى بغير حق .. هو قد تعود الالتفا
د سيف آل غدير
لماذا لم يطنب فخري كريم لاكمال هذا المقطع ومذ ذاك تحولت الحالة الطارئة التي انبثقت من رحم الصدفة وردود الافعال اليائسة الى تحدٍ ورهانٍ وقلق على احتمالات الفشل والنكوص بعد ورود انباء عن حصارٍ قد يودي بالصولة التي تجرأ بها صاحبها على أبناء ملته. ,,,,, فيه
د. مصطفى ألعيسى باريس
إن ألذي يؤمن بولايته ألفقية لا ولن يرحل!!!!!!!!