TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ليس بشرا سويا

ليس بشرا سويا

نشر في: 1 فبراير, 2013: 08:00 م

غالبا ما يقال لنا إن أهم ما يتميز به الإنسان عن الحيوان هو انه "كائن أخلاقي". فبأي معنى هو كذلك؟ وهل يصح عليه هذا الوصف دائما وفي كل الشروط؟
إجمالا يمكن القول بأن الأخلاق هي القدرة على التمييز بين ما هو خير وما هو شر. وهذه القدرة التي ينفرد بها بنو البشر تأتي حصيلة معرفة. لكن هذه المعرفة لا تؤدي وحدها بشكل آلي الى جعل الانسان كائنا أخلاقيا. الذي يجعله كذلك هذه المعرفة مع شيء حاسم آخر هو الإختيار. أنت تعرف ما هو خير وما هو شر. واذا كان اتخاذك موقف الخير، أو موقف الشر، ناتجا عن عامل خارجي، لا من ذاتك، ولا دخل لإرادتك فيه، فإنك لا يمكن أن تكون كائنا أخلاقيا حتى وإن أصبحت الخير نفسه أو الشر كله. ذلك انك لم تختر هذا الموقف، وانما فرض عليك من الخارج، من التقليد أو العرف أو الناموس، أو أي شرط أو ظرف خارجي.
الاختيار هو الذي يجعل منك كائنا أخلاقيا. فهناك أولا معرفة، وهناك ثانيا حرية تقرر أو تختار من خلالها هذا الموقف أو ذاك، ثم بعد ذلك تتحمل المسؤولية الشخصية، أو الذاتية، ازاء خيارك. وهذه المسؤولية هي جوهر الأخلاق. إنها هي ما يجعل الانسان كائنا أخلاقيا.
المعرفة والحرية والمسؤولية إذن هي مكونات هذا المبنى الذي نسميه الكيان الأخلاقي. وتبقى المعرفة هي العامل الحاسم في هذا البناء. وعلى رأي كاتب عظيم فإن "المعرفة أساس الأخلاق، والوعي معيار الأخلاق". ولكن أي معرفة؟ هل هي معرفة العلوم والآداب والفنون؟ ليس هناك شك في أهمية كل هذه المعارف. لكن المعرفة المقصودة في المجال الأخلاقي هي معرفة الفرد لنفسه أو وعي المرء لذاته. هذا هو أساس المعرفة. إذ يستحيل على الانسان أن يكون عارفا للعالم وجاهلا بنفسه. وإذا ما افترضنا مثل هذه الإمكانية فإنها ستضع المرء خارج مجال الأخلاق. أي خارج المعرفة والحرية والمسؤولية.
ان معرفة الانسان لنفسه تأتي من تأمله فيها، والنفاذ الى داخلها، واكتشاف ما فيها من خير وشر. ومسرح وجود الشر والخير هو ذات الانسان، كل إنسان. وتأمل هذا المسرح وسبر أغواره كما يقال هو نهج المعرفة ومضمونها، ثم الصراع معه من أجل اختيار موقف الخير الأكثر أو الشر الأقل، أو العكس، هو الحرية. وتكاليف هذه الحرية تسمى المسؤولية.
من دون هذه المكونات لا يعود هناك شيء اسمه كيان أخلاقي. ويمكن للمرء ان يعيش حياته كلها خارج هذا الكيان. ينفقها في الكسل أو اعتمادا على موضوع أو موضوعات خارجية. انه لا يشعر بنفسه ولا يحس بوجوده الا من خلال آخر: أبي كان مربيا سيئا أو فاضلا. زوجتي هي السبب. الظروف صنعت انحرافي. النفط دمرنا. الطبيعة شوهتنا. الاستعمار فرقنا. النجوم لملمتنا. وهكذا. هناك فقط الموضوع الخارجي. الخير والشر يوجد هناك، في طبيعة ما، في شخص آخر، مؤسسة أخرى، أو دولة أخرى.
في حالة مثل هذا المخلوق الذي يحس بذاته من خلال موضوع خارجي فقط هناك دائما تحويل للمسؤولية بدلا من تحمل المسؤولية. وكيف يكون مسؤولا اذا كان الشيطان وازاه، أو ألهمه الرحمن، أو وجد نفسه متعصبا لفكرة من الأفكار السياسية أو الدينية أو الطائفية والى آخره، فهو محكوم بها بما يشبه حكم القضاء والقدر. هناك ظروف خارجية ما شكلت عنده وعيا خارجيا من هذا النوع أو ذاك، وفقد بذلك مقومات المعرفة والحرية والمسؤولية، ولم يعد كائنا أخلاقيا، ولا بشرا سويا.
 كم وُجِد وكم بقي على هذه الأرض من هذا الصنف. الله أعلم!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram