TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كائنات دجاجية

كائنات دجاجية

نشر في: 1 فبراير, 2013: 08:00 م

أجمل ما في العلاقات الاجتماعية أنها ثابتة، وأجمل ما في ثباتها أنه نسبي. بعبارة أخرى هناك دائماً معايير تَحْكُم طبيعة العلاقة بين أي فردين، مثلاً بين العامل ورب عمله، وهذه المعايير ترسم شكلاً عاماً للعلاقة يجعل كلاً من طرفيها يتصرفان وفق صيغ معروفة ومتوقعة، فنحن نعرف بأن أي عامل يحترم رب عمله، في الظروف الطبيعية، ويطيع أوامره، وهذا هو جانب الثبات في أي ظاهرة اجتماعية. لكننا لا نعرف بالضبط نوع التصرف الذي سيستخدمه العامل وهو يعبر عن احترامه، هل سيبالغ فيقف متذللاً خاشعاً، أم سيكتفي بترديد عبارات الاحترام الشائعة، أم أنه سيستخدم صيغة تعبر عن الاحترام وتحفظ العزة والكبرياء؟ هذه الأشكال المتعددة من التعبير تأتي من اختلاف الشخصيات، وهذا الاختلاف هو الذي يجعل ثبات الظاهرة الاجتماعية نسبيا لدرجة كبيرة..
حاول طيف كبير من علماء الاجتماع أن يتعاملوا مع الظواهر الاجتماعية ـ كالعلاقات، والسلوك، والمؤسسات، والأنظمة ـ باعتبارها أشياء ثابتة، كأشياء الطبيعة، من أجل أن يحولوا المجتمع إلى كيان يمكن دراسته وفق مناهج العلوم الطبيعية، فيكتشفوا القوانين التي تتحكم به ومن ثم يستطيعون التحكم به بشكل دقيق، كما نفعل بجسدنا. فالجسد يتصرف كما تتصرف الأشياء الطبيعية، عملية التنفس تحدث بشكل آلي، وعملية الهضم، وبقية عمليات الجسد، ومن هنا نستطيع بسهولة أن نتحكم بعدد ضربات القلب، مثلاً، وبقية العمليات الجسدية.. على كل حال لم ينجح العلماء في إيجاد جوانب ثابتة بشكل حقيقي في المجتمع، حتى يكتشفوا القوانين التي تتحكم بها، لهذا السبب لم نستطع أن نتحكم بمرض التمييز، العنصري أو الديني. ولم نتمكن من التحكم بجميع الأمراض الاجتماعية التي تشكل أعراضاً مختلفة لمرض الجريمة، لم نستطع، ولن نستطيع، أن نعرف كيف نقضي على الفساد مثلاً، ولا كيف نعالج الجشع، ولا القتل ولا أي مرض اجتماعي آخر؛ لأن هذه الأمراض عبارة عن ظواهر اجتماعية وهي تختلف من شخص إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع، فالسرقة قد تكون بدافع الفقر، أو الكره، أو التحدي، ومن ثم فمعالجة الفقر لن تقضي على جريمة السرقة، والسبب أن الكره والتحدي مشاعر لا يمكن التحكم بها.
لكن هناك جانبا مشرقا في عجز العلماء عن التحكم بالمجتمع وأفراده، لأنه يمنعهم من القدرة على تحويلنا إلى آلات، ولو استطاعوا لفعلوا، لأن أي سياسي سيعطيهم المليارات من أجل يصنعوا له دواء يُحَوِّل من خلاله جميع أفراد مجتمعه إلى كائنات دجاجية، كائنات لا تفعل أي شيء سوى أنها تبيض لمالكها بيضاً طازجاً أول النهار وتنام بسلام وهدوء في أول الليل.
سر الإنسان أنه كائن لا يمكن التحكم به، والفرد الذي تسهل عملية التحكم به وتدجينه، هو فرد مصاب بمرض في إنسانيته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram