روى لي أبي قبل أيام الحكاية التالية:
كنت صغيراً جداً عندما مرَّت بنا سنة قحط شديد بسبب انقطاع الأمطار، وكان أهل السلف يتلاومون بينهم في كيفية الخلاص من هذه المحنة، وماذا عليهم أن يفعلوا، وإذا بأحد العجائز، واسمها "بحيتة"، تعدهم بأنها قادرة على حل عُقْدَة السماء وجعلها تُمطر، ومع أنها لم تحصل على الانتباه الكافي، خرجت في صباح اليوم التالي وهي تحمل تمثال أنثى صنعته من أغصان الأشجار وألبسته خرقاً من القماش مختلفة الألوان والأحجام، ثم رفعته فوق رأسها وأخذت تدور بين خيام السلف وهي تردد هذه الأهزوجة بينما كنتُ وبقية الصبيان نصفق ونردد خلفها:
"يمْ الغَيْث غِيْثِيْنا.. وَبَلِّلِي رُوَيّعِيّنا
كل عُشبه الّلي تنْطِيْنا.. ياكلها اطليْيّنا"
ومعنى الأهزوجة؛ "يا أم الغيث اغيثينا، وبللي بأمطارك الرويعي الذي يرعى اغنامنا، وكل عشبه ستعطينا إياها سيأكلها خروفنا".. وبقيت على هذا الحال تردد الاهزوجة وتدور بين بيوت السلف لفترة ثم عادت الى بيتها، لكن المفاجأة كانت أن ذلك اليوم لم ينته إلا والأمطار انهالت علينا بشكل أدى إلى غرق بعض البيوت..
اهتمامي بالانثروبولوجيا جعلني أتوقف عند هذه القصة طويلاً، فمن الواضح أننا أمام طقس سحري قديم وثقافة عراقية منقرضة، وبأن هذه العجوز لم تكن تعي ما تفعل، هي فقط كررت ما كانت قد راقبته، وهي صغيرة، أو سمعته من أسلافها القدماء. ولو أنها اكتفت بترديد الأهزوجة لبقي الأمر طبيعياً، ولو أنها توجهت إلى السماء وهي ترددها لقلت بأنها تدعو الله على الطريقة الإسلامية، لكن حملها لتمثال أنثى ملونة الملابس، ودورانها بين بيوت السلف مع كورس من الصبيان، وترديدها اهزوجة تخاطب فيها أنثى خارقة، ربما آلهة.. كل هذه العلامات تكشف عن ثقافة طقوسية وسحرية. هذا بالإضافة إلى عامل مهم جداً، وهو أن العشيرة التي ينتمي إليها أبي، لم تكن قد تركت، خلال زمن تلك الحادثة، حياة الرعي إلى حياة الزراعة. وهذا الأمر يبتعد بجذور الطقس السحري عن حضارات جنوب وادي الرافدين ويضيع به في مجاهيل الصحراء وبواديها الموحشة، حيث الإنسان بمواجهة الامتداد وليس له إلا الخيال، متكأ وملاذاً آمناً.
أخيراً ثمة حكمة تختفي في طقس الاستمطار هذا.. حكمة تقول؛ بأن طرق الاتصال بالمطلق لا يمكن اختصارها بدين واحد أو اثنين أو ثلاثة، بل هي متعدد بتعدد الناس، فقوة الرب مكنوزة في ذات الإنسان، وكلما استطاع الإنسان أن يكون شفافاً أكثر، لمعت فيه هذه القوة أكثر. لذلك قلما نجد عند حراس المعابد أي لمعان، لأن الكثير منهم ملوثون بأدران قادرة على إطفاء حتى الخير المطلق.
جميع التعليقات 3
رائد حداد
لو بقى الانسان على فطرته الانسانية ولم يلوث ببئته الدينية والطائفية لكانت الحياة اجمل واحلى ممى هي عليه الان وشكر
عبدالعزيز الونداوي
عزيزي سعدون .. قد لا أكون مؤمنا بالدين ولا أمارس شعائره أبدا ولكني مؤمن بنوع من طرق الأتصال بالخالق المطلق حيث يسمعني مباشرة خاصة عندما أتجه إليه مباشرة بقلبي وبدون واسطة أو اسلوب سينمائي .. لقد إستجاب لي ولا يزال عندما أخاطبه بقلب مفتوح بلا نفاق ولا مجام
رضا الشاعر
بسم الله الرحمن الرحيم أخي وصديقي أبو غيث السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعد مطالعتي لعمودكم صار لزاماً علي أن أسئلكم السؤال التالي: هل أن حراس المعابد الملوثون هم السبب في أخراجكم من صومعة المعابد أم أنكم ترون أن فكرة المطلق قد فقدت بريقها لامحال مع فا