TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > طقوس "بحيتة" وربة المطر

طقوس "بحيتة" وربة المطر

نشر في: 2 فبراير, 2013: 08:00 م

روى لي أبي قبل أيام الحكاية التالية:

كنت صغيراً جداً عندما مرَّت بنا سنة قحط شديد بسبب انقطاع الأمطار، وكان أهل السلف يتلاومون بينهم في كيفية الخلاص من هذه المحنة، وماذا عليهم أن يفعلوا، وإذا بأحد العجائز، واسمها "بحيتة"، تعدهم بأنها قادرة على حل عُقْدَة السماء وجعلها تُمطر، ومع أنها لم تحصل على الانتباه الكافي، خرجت في صباح اليوم التالي وهي تحمل تمثال أنثى صنعته من أغصان الأشجار وألبسته خرقاً من القماش مختلفة الألوان والأحجام، ثم رفعته فوق رأسها وأخذت تدور بين خيام السلف وهي تردد هذه الأهزوجة بينما كنتُ وبقية الصبيان نصفق ونردد خلفها:

"يمْ الغَيْث غِيْثِيْنا.. وَبَلِّلِي رُوَيّعِيّنا

كل عُشبه الّلي تنْطِيْنا.. ياكلها اطليْيّنا"

ومعنى الأهزوجة؛ "يا أم الغيث اغيثينا، وبللي بأمطارك الرويعي الذي يرعى اغنامنا، وكل عشبه ستعطينا إياها سيأكلها خروفنا".. وبقيت على هذا الحال تردد الاهزوجة وتدور بين بيوت السلف لفترة ثم عادت الى بيتها، لكن المفاجأة كانت أن ذلك اليوم لم ينته إلا والأمطار انهالت علينا بشكل أدى إلى غرق بعض البيوت..

اهتمامي بالانثروبولوجيا جعلني أتوقف عند هذه القصة طويلاً، فمن الواضح أننا أمام طقس سحري قديم وثقافة عراقية منقرضة، وبأن هذه العجوز لم تكن تعي ما تفعل، هي فقط كررت ما كانت قد راقبته، وهي صغيرة، أو سمعته من أسلافها القدماء. ولو أنها اكتفت بترديد الأهزوجة لبقي الأمر طبيعياً، ولو أنها توجهت إلى السماء وهي ترددها لقلت بأنها تدعو الله على الطريقة الإسلامية، لكن حملها لتمثال أنثى ملونة الملابس، ودورانها بين بيوت السلف مع كورس من الصبيان، وترديدها اهزوجة تخاطب فيها أنثى خارقة، ربما آلهة.. كل هذه العلامات تكشف عن ثقافة طقوسية وسحرية. هذا بالإضافة إلى عامل مهم جداً، وهو أن العشيرة التي ينتمي إليها أبي، لم تكن قد تركت، خلال زمن تلك الحادثة، حياة الرعي إلى حياة الزراعة. وهذا الأمر يبتعد بجذور الطقس السحري عن حضارات جنوب وادي الرافدين ويضيع به في مجاهيل الصحراء وبواديها الموحشة، حيث الإنسان بمواجهة الامتداد وليس له إلا الخيال، متكأ وملاذاً آمناً.

أخيراً ثمة حكمة تختفي في طقس الاستمطار هذا.. حكمة تقول؛ بأن طرق الاتصال بالمطلق لا يمكن اختصارها بدين واحد أو اثنين أو ثلاثة، بل هي متعدد بتعدد الناس، فقوة الرب مكنوزة في ذات الإنسان، وكلما استطاع الإنسان أن يكون شفافاً أكثر، لمعت فيه هذه القوة أكثر. لذلك قلما نجد عند حراس المعابد أي لمعان، لأن الكثير منهم ملوثون بأدران قادرة على إطفاء حتى الخير المطلق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. رائد حداد

    لو بقى الانسان على فطرته الانسانية ولم يلوث ببئته الدينية والطائفية لكانت الحياة اجمل واحلى ممى هي عليه الان وشكر

  2. عبدالعزيز الونداوي

    عزيزي سعدون .. قد لا أكون مؤمنا بالدين ولا أمارس شعائره أبدا ولكني مؤمن بنوع من طرق الأتصال بالخالق المطلق حيث يسمعني مباشرة خاصة عندما أتجه إليه مباشرة بقلبي وبدون واسطة أو اسلوب سينمائي .. لقد إستجاب لي ولا يزال عندما أخاطبه بقلب مفتوح بلا نفاق ولا مجام

  3. رضا الشاعر

    بسم الله الرحمن الرحيم أخي وصديقي أبو غيث السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعد مطالعتي لعمودكم صار لزاماً علي أن أسئلكم السؤال التالي: هل أن حراس المعابد الملوثون هم السبب في أخراجكم من صومعة المعابد أم أنكم ترون أن فكرة المطلق قد فقدت بريقها لامحال مع فا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram