هناك شكل وحيد من أشكال الرسم يمارسه البشر غير الأميين ملزمين وهو "التوقيع". ففيه وحده عليك أن تخترع شكلا فنيا يخصك، وتعتمده المؤسسات والدوائر الرسمية التي تتعامل معها، وفي كل مكان تضطر الى استخدامه.
وأنا، بلا فخر، صاحب أسوأ توقيع. انه بسيط، بلا تعقيد، خال من أي براعة، سهل التقليد، وفوق ذلك لا استطيع وضعه دائما بنفس الدقة، ما عرضني الى بعض المشاكل أحيانا. وأول ما يعنيه ذلك لي هو أنني رجل عديم الموهبة كليا في الرسم، وإن الرجاء فيَّ مقضيٌّ عليه بهذا الخصوص.
وقد يكون هذا سببا من الأسباب التي دفعتني الى الإقتصاد في الكتابة أو التعليق على أعمال الرسم أو النحت. فمن أين يمكن أن يكون لي رأي، وأن أعتقد، وأن أخالف أو أوافق، في أمر من أمور الفن التشكليلي ويدي لم تتمكن من صياغة مجرد "توقيع" ناجح بدرجة مقبول؟
ولكن يحدث أن يكون ما ينقصك سببا في معرفة قيمة هذا النقص. فإذا كانت مشيتُك مخربطة، وكنت مدركا لذلك، فمن المؤكد أنها ستكون عاملا في امتلاكك قدرة على تمييز المشية الأنيقة عن المشية المرعبلة. وعلى هذا المنوال يمكن القول إن في كل نقص فائدة. أو حتى إن في كل نقص تماما.
والحال فإن نقص الموهبة لا يساوي نقص القدرة على تقدير الموهبة. على العكس من ذلك فقد يكون نقص الموهبة سببا من أعظم أسباب ادراك قيمة الموهبة. ولطالما قيل ان ناقد الشعر شاعر فاشل. وبغض النظر عن صحة أو خطأ هذا القول فإن له معنى. فالناقد شخص يتمتع بمؤهلات معرفة اسرار اللغة التي يكتب بها الشعر، وبثقافة شعرية وأدبية عالية، وبرؤية أو حساسية ما تفرد له قواعد نظر أو تقييم خاصة به، حتى يمكن له أن يكون ناقدا قديرا، يغني الشعر المنقود، ويكون دليلا ثقة اليه. وكل ذلك من دون أن يكون هو ذاته شاعرا.
وعلى هذا الأساس يمكن أن أتحول الى ناقد تشكيلي لأني رسام فاشل. فاشل حكما بسبب توقيعي الرديء. أو لأتواضع وأقول بأنه يمكن أن يكون لي ذوق جيد في التشكيل بسبب نقصي التشكيلي. وهذا ما أرجوه لنفسي من دون أن أكون متحققا منه. ويمكن أن ازيد على ذلك بالقول ان قيمة الفن التشكيلي كله، بل وقيمة كل فنون وأعمال البشر العباقرة والمبدعين، تتوقف على كثرة ما فينا من نواقص نحن البشر العاديين. فنحن جمهور هذه الروائع، الذين نسعى اليها حيث تكون، ونزورها، أو نقتنيها، أو نقرؤها، ونتطلع فيها، ونسحر بها، أو نتعلم منها، ونشعر انها خاصتنا، صنعت من أجلنا، وعبرت عن أحسن ما فينا.
ولعل النظر الى الفنون والآداب والأفكار من هذه الزاوية مفيد لها بقدر ما هو مفيد لنا نحن البشر العاديين. ذلك ان هذا النوع من النظر هو عبارة عن معادلة حقوق وواجبات بين المرسِل، صاحب الإبداع أو الفكر، وبين المتلقي لهذا الابداع أو الفكر. واجب المرسل أن يقدم المفهوم أو القابل للفهم والمفيد والممتع. وهذا حق المتلقي على المبدع. أما واجب المتلقي تجاه المبدع والمفكر فهو أن يفهم أو أن يتعب نفسه من أجل أن يفهم ويستمتع. وهذا الفهم والاستمتاع هو بمثابة إغناء وتوسيع وتعميق لأثر المبدع أو المفكر في حياة الناس.
ولذلك يجب علينا نحن البشر العاديين أن لا نخاف من روائع الإبداع والفكر، ولا أن نقطع معها، ذلك انها جميعا أنجزت من أجلنا، ووجدت لسد نواقصنا، وما كانت لتبقى من دوننا، حتى لو قامت أصلا لأسباب ذاتية. فالأهرام في الأصل مقابر ملكية. لكن البشر الذين وروثوها وقدَّروها منحوها قيمة الإبداع والخلود، وجعلوا بذلك مقابر الموتى ينابيع إلهام.
نقصك مفيد
[post-views]
نشر في: 3 فبراير, 2013: 08:00 م