مؤكد أن الناس جميعاً يولدون بطبيعة واحدة، مع بعض الاختلافات البسيطة، وأنهم يكتسبون صفاتهم التي يعرفون بها مع الأيام، يستوي في ذلك أبناء الفلاح والتاجر والبحار، الغني والفقير، الشجاع والجبان، المجرم ورجل العلم، وليس هناك شك في تأثير البيئة التي ينشأ فيها الفرد، على طبيعة شخصيته المكتسبة، وما تحمله من صفات، فإن كان ينمو في بيئة متسامحة، شبّ متسامحاً، وإن كان يعيش في بيئة عسكرية، اكتسب صفات المقاتل، سيختلف الناشئ في المدينة عن ابن الريف أو الصحراء، فابن المدينة ناعم، يتعامل مع أبناء مدينته بهدوء وكياسة، بسبب طبيعة العمل الذي يشتغل فيه، سواء كان تاجراً أو حرفياً، لحاجته إليهم، أمّا ابن الصحراء فينشأ على الريبة ممن هم حوله، بسبب قسوة الطبيعة وندرة خيرها، وابن الريف يعقد صداقته مع الطبيعة، فإن جادت عاش بخير وبحبوحة، وإن امتنعت صعبت عليه الحياة واشتدت قسوتها.
يدفع ذلك للسؤال عن المعطيات التي تحيل فرداً إلى دكتاتور، يظن نفسه من طينة مختلفة عن بني البشر، وأنه أقرب إلى طبيعة الإله، فيبدأ التصرف مع الآخرين بناءً على هذا الفهم، الذي يتحول مع الأيام والظروف المحيطة، إلى الجزء الأهم في تركيب شخصيته، وليس هناك شك في أن البيئة التي يجد فيها هذا "الإنسان" نفسه، وطبيعة تعامل المحيطين معه عوامل أساسية في ما سيؤول إليه من قناعات بتفرده، واختلافه عن الجميع بمن فيهم أفراد عائلته، وعندها سيكون العاملون على تغذية هذا الشعور هم الأقرب، يعاملهم مع ذلك بفوقية، ولا ينظر إليهم كأنداد له في إنسانيتهم، بعد أن سلخ نفسه عن البشر، واعتلى عرش التميز والفرادة وامتلاك الحكمة منفرداً، حتّى أن بعض نواقصه تتحول بفضل جوقة المحيطين إلى مزايا يتفرد بها عن الآخرين.
ما يدفع إلى هذه المقدمة رسالة تناقلتها بعض وسائل الإعلام، افتخرت بنشرها دكتورة تدرس مادة الإعلام في الجامعة السورية، وليعذرني القارئ على إيرادها بنصها كاملاً فهي تقول:
"سيادة الرئيس
سيدي أنا خادمتك، أتوسل إليك باسمي وباسم 23 مليون سوري أن تذهب إلى غرفتك وترتدي البدلة العسكرية، أنا و كل محبيك مستعدون لتقبيل حذائك العسكري ووضعه على رؤوسنا، نتوسل إليك بحق طولك وشبابك وعيناك الزرقاوتين التي يخشاهما الجميع أن تجعل جيشك المغوار منتشرا في شوارع سوريا، ارحمنا يا سيدنا، نركع عند أصابع قدميك متوسلين طالبين منك أن تضرب بيد من حديد، اخرج أينما كنت سواء بسفينة كما يقولون أو بسقيفة كما يدعون أو من قصرك الشامخ كما عهدناك، هيا اخرج ليخافوا ويهربوا، تعبنا يا سيادة الرئيس، فأنا لا أنام الليل من كثرة الكوابيس،أرجوك أرجوك أرجوك".
إلى هنا وينتهي نص الرسالة، أوردتها بما فيها من أخطاء، يخجل طالب في الابتدائية من اقترافها، لكنها تبدو طبيعية عند حاملة شهادة دكتوراه تدرس مادة الإعلام.
ونسأل عن طبيعة المشاعر التي انتابت السيد الرئيس، وهو يقرأ الرسالة التي تبرعت مرسلتها بالقول إنها بعثتها بالنيابة عن 23 سوري، مستعدين للركوع عند أصابع قدميه، متوسلين بحق طوله وشبابه وعينيه الزرقاوين، ومستعدين لتقبيل حذائه العسكري، وهي تجاهلت كل معارضي "زريف الطول"، الحاملين السلاح ضده، ومعهم مئات آلاف اللاجئين في دول الجوار، هرباً من جحيم حكمه، وهم الدفعة الأخيرة من السوريين الذين وجدوا أنفسهم في المنافي، لأن البلاد لا تتسع لغير الرئيس والذين معه، وكيف لا يجد نفسه في مرتبة مختلفة عن بني البشر، ما دامت واحد ة من "نخبة المجتمع" مستعدة لتقبيل حذائه، وهي تتغزل بلون عينيه وطوله، مع أنه لا يد له في اكتساب الصفتين.
ونسأل بعد ذلك كيف يتحول الحاكم عندنا إلى دكتاتور؟