TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > من هو صدام؟

من هو صدام؟

نشر في: 6 فبراير, 2013: 08:00 م

سألت الصبية ذات السبعة عشر عاما والدها: من هو صدام حسين؟ فوجىء الأب بالسؤال بل صُدم، وأجابها حانقا: إنه نار لازالت تحرق جسدي. روى لي هذه الواقعة صديق عزيز كان شاهد عيان عليها.

حال الصبية ينطبق على معظم المراهقين (11 – 19 سنة)، ممن تفتح وعيهم عقب انهيار عالم صدام حسين. إن هؤلاء نسبة كبيرة جدا من السكان، ضمنهم كل الطلاب من المرحلة الابتدائية الى مطلع الدراسة الجامعية. إنهم يعيشون في عالم لا تربطه صلة بـ "الطبقة السياسية" التي لم تقطع حبلها السري مع عالم صدام، وحافظت على علاقتها معه بطريقة او أخرى.

في هذه المعادلة يبدو السياسي وكأنه مشدود الى الماضي مفصول عن الحاضر، في حين ان المراهق يعيش الحاضر مفصولا عن الماضي. وهذه هوة مريعة. فالمراهقون في واد. والساسة في واد آخر. واذا اتخذتَ من الوالد الذي لم يزل محترقا بصدام نموذجا لـ "الساسة"، أو لقسم غير قليل منهم على الأقل، لوجدتَ أنهم ينتمون الى التاريخ، وبالتالي الى الحقد، أكثر من انتمائهم الى الحياة.

ولعل هذا أحد أهم أسباب قلة اكتراث السياسة عندنا بالحياة. فقد ورثت هذه السياسة بلدا خرابا في كل شيء، ودمارا شاملا لكل شيء. ولكن ساسة التاريخ والحقد لم يلفتهم شيء من ذلك كله، ولم يعنوا باصلاح شيء من ذلك كله. بل انهم على العكس من ذلك أوغلوا ابتعادا ونأيا عن متطلبات الحاضر والمستقبل، وقطعوا تذكرة الى اتجاه واحد بلا عودة، الى صدام، والى ما هو أبعد منه بمئات السنين، حتى وصلوا الى أيام "الفتنة الكبرى" وجلسوا مقيمين عندها.

وكانت "الحرب الطائفية" عامي 2006 – 2007 إحدى أسوأ نتائج هذا السَفَر البعيد في غيبوبة التاريخ. الأسوأ فقط. فتلك الغيبوبة تحولت إلى مصنع للمساوىء، إلى معمل لإنتاج بضائع الخدمات الرديئة، والفساد، والعنف، والظلم، وتمزق النسيج الوطني، وأخيرا وليس آخرا، "جيش المختار" الذي أُعلن تشكيله هذه الأيام بهدف شن حملة "إبادة جماعية" على البعثيين، كما ورد نصا على لسان أحد مغاوير هذا الجيش. ومكان هذا المغوار في أي بلد من بلدان العالم السجن لخروجه على القانون مرتين، الأولى تأليف ميليشيا، والثانية الإعلان السافر عن نية ارتكاب العنف والتحريض عليه. ولكن هذا الرجل المعمم، الذي يبدو وكأنه قاطرة حقد، يتبختر حرا في مسرح الفوضى على مسمع من الجميع وتنكيلا بالجميع.

أين مكان الصبية ذات السبعة عشر ربيعا من هذا الحكي؟هل سيدخلها والدها دورة في تاريخ الحقد لتتخرج ضابطة في "جيش المختار" أو "الجيش الإسلامي"؟ أم أن قوة الحياة ستشدها وتنجيها من أنياب التاريخ؟

عند سقوط صدام كانت أغلبية شبيبة العراق، كما لاحظتُ، ذات وعي صحي بالتاريخ. بصدام على نحو أخص. كان بالنسبة اليهم تاريخ استلاب الحياة. كان اليأس. وكانوا يريدون من الأيام القادمة بديلا يعيد الحياة اليهم أو يعيدهم الى الحياة. كانوا واعين بالفطرة، وبقوة الحاجة الى الحياة، إن افضل ثأر من صدام هو إعمار العراق، وإن الحب هو افضل انتقام من الكراهية. كان التاريخ بالنسبة لهم جحيما أملوا التخلص منه بفتح صفحة حياة جديدة. حياة في الواقع بدل الحياة في التاريخ.

لكن ساسة التاريخ والحقد سرعان ما خيبوا آمالهم. فقد أمعنوا في سياسة سلب الحياة وزادوها تفننا واندفاعا. ومازالوا يفعلون. ترى هل بقيت لديهم القدرة على جر الناس وتجنيدهم في معارك التاريخ أم ان طاقتهم قد استنفدت؟ والى متى يمكن ان يكون هناك اغراء في المختار وصدام أكبر من إغراء الحياة؟ وكيف يمكن للمقبرة أن تكون ملهمةً أكثر من الشجرة؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. خالد

    عندي تصحيح لاني عشت هذه الفترة.. الحرب الطائفية لم تبدأ في 2006 بل في نهاية 2003 لكنها بقيت حربا من جهة واحدة الى 2006 حين تم تفجير مرقد العسكريين.. ترى هل كانت محاكمة صدام نتيجة حقد عليه؟.. انتقاد المالكي مطلوب لكن المغالطة شئ اخر..

  2. خالد

    علقت على هذا العمود و على موضوع اخر ايضا و لم يكن اي من التعليقين خارج عن الادب .. مع ذلك لم ينشر اي من تعليقاتي و ربما كان السبب ادراجها في خانة الاراء المغايرة ( الرفيق فخري كريم يعرف قصدي حين اقول الاراء المغايرة ) .. هل يستغرب المرء بعد هذا ان حزبا

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram