وحده الموقف النقدي من بضاعتك يستطيع تحسينها وتطويرها. فإذا رأيت ان منتوجك جيدا، سواء كان حذاء أو كتابا، فلا شيء يدعوك الى محاولة تحسينه أو تنقيحه غدا أو بعد غد. والجودة مختلفة باختلاف المقاييس. صحيح ان هدف كل منتوج واحد وهو الربح، المادي أو المعنوي، أو كلاهما. ولكنك لا تستطيع الربح من صناعة أفضل حذاء في "ديرة عفج". كما يمكنك أن تربح التقدير من اصدار كتاب تافه في وسط جاهل.
ومع الإعتذار من أهل "عفج" الكرام، والتذكير بأن الموضوع هو معنى المثل الشهير لا هم، والتأكيد بأن الخطأ في الفقر لا في الفقراء، نقول، بعد هذا الاعتذار، بأنه في حالتي حذاء ديرة عفج وكتاب البيئة الجاهلة لا تنشأ لديك حاجة الى موقف نقدي. كل ما عليك في الحالة الأولى اغلاق مصنع الأحذية لأنه خاسر. والاستمرار في الحالة الأخرى بإصدار الكتب التافهة لأنها مربحة ربحا معنويا، هو علو المكانة، الذي ربما يترتب عليه ربح مادي أيضا.
لكن اذا كان الانتاج يجري في بيئة تنافسية، متطورة، متنوعة، فإن هذه البيئة تفرض عليك الموقف النقدي من بضاعتك فرضاً. فلن يمشي كتاب تافه اذا كانت سوق الكتاب عامرة، واختبارات التمييز والتقييم شغالة على أفضل وجه، بدءً من المحرر في دار النشر، مرورا بمستوى الحس النقدي المتقدم الذي يشيعه تعليم مرموق، وصولا الى معامل الفحص المنتشرة في وسائل الاعلام الجماهيرية ومراكز الأبحاث والدوريات المتخصصة.
الأمر نفسه ينطبق على صناعة الأحذية. فزبائنها شرائح وطبقات اجتماعية يتميز بعضها عن بعض بالدخل والذوق. لن يمشي أي حذاء على أفراد المجتمع المخملي. هنا يكون التنافس على أشده لانتاج الحذاء الأفضل والأجمل والأرق والأريح والأغلى. ولكل من أفعل التفضيل هذه مقاييس تختلف عن بعضها البعض في أوساط رجال أو نساء هذا المجتمع. ودون المجتمع المخملي هناك تدرج في مستوى المنتوج حسب القدرة الشرائية، هبوطا الى الشريحة الأدنى اقتصاديا التي تُقيم حاجتها من هذه البضاعة بالسعر الأدنى لا بالجودة. لكن أحذية السعر الأدنى يمكن أن تكون تنافسية أيضا. فبين الانتاج الرخيص توجد أيضا بضائع أفضل أو أشيك أو أريح من بعض.
وكنا في وقت ما من أوقات العز النسبية نميز بين "الحذاء" وبين "القندرة". فالأول هو اسم النوع الجيد والغالي. والثاني اسم المنتوج الرديء والرخيص. وكان هناك تعبير دارج يقول ان الحذاء هو الوجه الآخر للرجل. وفي تلك الأيام كان في الإمكان أن ترى في شوارع بغداد انسانا لامعا من الوجهين. ولم يكن مثل ذلك المشهد قليلا أو نادرا وانما كان هو الغالب. وبتعبير آخر فإن "الحذاء" كان أكثر شيوعا من "القندرة".
أما اليوم فقد انقلب المشهد انقلابا تاما. اختفى الحذاء وعمت القندرة في شوارع بغداد. ولابد ان هناك أسبابا كثيرة أدت الى هذا الانقلاب. لكن السبب الأقوى موضوعي وليس ذاتيا. فالديمقراطية الفتية اهتدت الى حجارة لأرصفة بغداد لا يمكن لحذاء المشي عليها، بسبب خشونتها وتفاهة أنواعها وطرق صفها المتماوجة المعوجة التي تجعل منها أشبه بمسالك جبلية، وهذا بالإضافة الى سرعة انهيارها أو خرابها، فتحفر ويعاد رصفها في دورات متتابعة. أما اذا أمطرت الدنيا فإن الأرصفة والشوارع تصبح كفرا بواحا، سيانا وطينا. فكيف يمكن لحذاء محترم الصمود أمام مثل هذه المحن؟
وهذا هو أقوى أسباب احتكار "القندرة" للمشهد في بغداد اليوم. وهو ظرف موضوعي قاهر لا يسمح بأي موقف نقدي من شأنه تطوير أو تحسين صناعة الأحذية في البلاد. فما هو المربح من الحذاء اذا كانت بغداد قد تحولت الى نوع من ديرة عفج؟
عصر القندرة
[post-views]
نشر في: 8 فبراير, 2013: 08:00 م