علي النجارليس فقدان المبدع سوى نبوءة لولادة جديدة, لكنها وفي كل الأحوال سوف تبقى ولادة عسيرة بما تحمله من مواصفات ربما تعيد للذهن سيرة الفقيد بتلاوين جديدة. فقدان فرسان الرعيل التشكيلي العراقي الحديث الأول وفي أزمنة متقاربة يشكل خسارة
مضافة لخساراتنا الثقافية والإنسانية التي لا تزال تستنزف ما تبقى من الإرث الحداثي العراقي. والفنان محمد عارف كما سابقيه في الرحيل للعالم الآخر شاكر حسن آل سعيد وإسماعيل فتاح الترك وسعد شاكر وقبلهم كاظم حيدر تركوا بعد رحيلهم إرثا هو في معظمه أساطير خلت من وثائقيتها بعد كم الخراب الذي لحق بنتاجهم في زمن التحولات الدراماتيكية السياسية وسطوة ثقافة السلب الهمجية. حسنة محمد عارف تكمن في ورعه الثقافي الذي أورثه رقة هي غريبة بعض الشيء عن الوسط التشكيلي المشاكس. رقة تلبست نتاجه أيضا بفائضها الوجداني. وداعته أبعدته عن مغامرات بعض أقرانه الحداثوية حد نهاياتها القصية والممكنة حسب مهارات تصوراتهم, لكنها لم تسلبه عوالمه الأخرى التي غابت عن معظم البحث التشكيلي العراقي. عوالم الأسطورة حينما تغوص في عمق الوقائع المتغافل عنها. وقائعه الخاصة لم تنفصل عن وقائع التاريخ الحداثي الكردستاني في بعض من تصادمات تواريخه ومحيط غير محايد. إن تشكلت الحداثة التشكيلية العراقية عبر خطوط طول وعرض التشكيل الحداثي العالمي. فان التجربة الواقعية الاشتراكية لم تترك سوى بصمات قليلة على منجزه. وأفضل ممثليها(رغم تحفظي على استنساخ التجربة) هو محمد عارف. إذ أن خريج الاتحاد السوفيتي السابق الآخر(شمس الدين فارس ) اغتيل مبكرا. أما ماهود احمد, فرغم دراسته الفن في هذا البلد إلا أن نتاجه مغرق بتأثيرات الرسوم الجدارية المكسيكية رغم ما علق بها من تأثيرات ثقافية لمنشأ دراسته السوفيتية. لقد استخلص محمد عارف درسه التشكيلي بمحاذاة محيط أناسه تنقيبا عن جوهر الجمال المخفي خلف سحناتهم وبين تلافيف أرديتهم ممارسا لعبة التخفي بين ثنايا أطياف ملونتهم وهو المولع دوما بالجمال, ساعده على إجادة التنقيب في كنزه الجمالي مهارات أدائية لم تخطئ هدفها طوال حياته المكتظة إبداعا. لقد توزع ارثه(بما انه أصبح الآن أرثا) ما بين ولعه الأسطوري كمؤرخ ثقافي تشكيلي وبيئة بكر هي بيئة منبته وبدون إغفال لغنى الفولكلور الكردستاني. رسومات المغدور شمس الدين فارس الجدارية تتمتع بصلابة تحيل إلى موادها الأولية الإنشائية المعمارية وبذلك فهي تفتقد رقة مشخصاتها, على الضد من شخوص عارف المطواعة لأداء عاطفة فائضة أكسبتها رقة مضاعفة. فشخوصه رغم سطوة ملاحمها الأسطورية وعنف الحدث إلا أنها من عجينة أخرى تنأى باستمرار عن الإفصاح عن عنفها الداخلي رغم مشروعيته, وكلما أتطلع إليها اكتشف روح الرسام تطوف عبر ظلالها. فالجرح وهو شرخ عميق يتسربل معظم شخوص هذه الملاحم قابل عن الإفصاح بعنف مواز, لكنه يبقى ملجما وبحدود ما يريده الرسام من دعوة للسلام, فشخوصه غالبا ما تنعطف صوب حمائم هي طفولة أجيال جديدة لا تحمل الصخرة كما سيزيف, بل تخزنها تذكارات لحيوات قادمة. لقد استحق عارف أستاذيته الريادية للتشكيل الكردي عن جدارة, وفتح الباب على مصراعيه لتجارب قادمة أرجو أن لا تغفل تراثه بقدر ما تعمق أطيافه. وان لا تنسى أو تتغافل على موروثة الثقافي الإنساني الوجداني. فارث الواقع والواقع المتخيل لهذا الرسام الواقعي الفقيد يبقى ليس بالإمكان إغفال أهميته في مسيرة التشكيل الكردي العراقي وسوف يبقى ملكا مشاعا لنا كلنا. لرسوم الطبيعة قصة أخرى في التشكيل العراقي, ولقد تراوحت أهمية نتاج الفنانين الطبيعي هذا مابين الإجادة والابتكار والتأثر بعد أن أصبحت ممارسة اجتماعية عند الرواد. لكن القطب المهم والذي هو من خارج هذه الجماعة هو المرحوم خالد الجادر. رسومات الجادر دوما معفرة الأجواء بغبرة لونية هي جزء من غبرة البيئة العراقية, مثلما كانت رسوماته مكتظة بخطوط تعبيرية هي جزء من كثافة عجينة ملونته, لذلك لم تخف رسوماته بشكل عام خلفيتها الكرافيتية ومهارة كادر لقطاته الميدانية المحيطية والخلوية. محمد عارف هو الآخر اغرم برسم الطبيعة. لكنها طبيعة من بيئة أخرى. ومابين جنوب العراق وشماله الكردستاني فروقات بيئية كبيرة هي كما بين السهل والجبل. وحتى في بنية مواد سكنه. وهذه الفروقات على أوضحها في رسومات هذين الفنانين. فالطيف اللوني عند الجادر ليس كما عند عارف. لذلك تبدو ملونة البيئة عند محمد عارف قريبة من ملونة الأردية الفولكلورية الكردية الزاهية على خلفية بياض الثلج الشتوي. فالمنازل لا يتعدى كونها رقعة مقتطعة من البيئة المحيطة وأسقفها بعض من حشائشها. وان أعوزته الملونة فالشخوص المحيطة بالسكن كفيلة بنثر زهرها(وهو المولع بسحر الممارسات الفولكلورية وتوثيقها رسما) . هذه الرسوم هي هجينة مابين واقعية الرسام وانطباعية البيئة, إذ اللون نثار لا امتداد كما هو في سهل الجنوب. لقد أجاد الفنان في إمساكه بالمقدرة التشخيصية ومتانة الملونة وترك لنا درسا في الرسم البيئي ليس من السهل إغفاله. وختاما يبقى السؤال يحيرني: من هو الأهم, هل هو الفنان, أم منتجه! اعتقد بان الإجابة على هكذا سؤال هي إجابة بديهية و
ليـس وداعـا مـحـمــد عـــارف
نشر في: 25 أكتوبر, 2009: 06:42 م