شئنا أم أبينا فإن جبهة النصرة الموصومة بالإرهاب، تتسيد المشهد السوري، من خلال قوتها المالية، التي تمنحها أفضلية في تقديم خدمات إنسانية للمواطنين العزل، ومن خلال عديد مقاتليها، المستعدين دائماً للقيام بعمليات نوعية يعجز عنها الآخرون، وهي الأكثر إيذاءً للنظام، والأهم أنها في ظل الظرف الاقتصادي البائس للمواطن السوري، فإنها الأغنى، بسبب تدفق التمويل الخارجي على خزائنها، ما يمكنها من بسط نفوذها، وهي الموحدة فكراً وقيادة، فيما تشهد ساحة المعارضات الأخرى تشرذماً متزايداً بين كتائبها وألويتها، ونقصاً في العتاد والأموال، يمنعها من تقديم أي مساعدة، بقدر ما يدفعها لمشاركة المواطنين في القليل مما يملكون، ويدفع ذلك إلى مخاوف يغذيها الغرب اليوم، من استيلاء الجبهة على الحكم في سوريا بعد سقوط نظام الأسد.
في حلب الشهباء المترفة، وحين استولت كتائب معارضي الأسد على مخازن الحبوب في أنحاء المدينة كافة، توقف المعروض من الدقيق، وتوجهت الاتهامات لثوار الجيش السوري الحر بسرقة الحبوب وبيعها، ما أثار استياء السكان، قبل أن تتمكن جبهة النصرة من السيطرة على المخابز، وتأسيس نظام لتوزيع الخبز، وهم يبيعون الخبز للسكان بثلث تكلفته الفعلية، ويوزعونه مجاناً على الأشخاص المعوزين، ويعلنون أن لديهم ما يكفي لمساعدة كافة المناطق المحررة، ووفروا دعماً للمزارعين ليتمكنوا من التحضير لموسم الحصاد وتزويد المخازن بالمحصول، كما أنهم يشجعون رجال الأعمال على إعادة فتح مصانعهم، التي تعتبر المحرك الاقتصادي للبلاد، إضافةً لبدء مشروع لتنظيف الشوارع، وإذا كان معارضو الأسد بدأوا ثورتهم بهدف تحويل سوريا إلى دولة حديثة، فإنهم لم يتمكنوا حتّى من تقديم أبسط الخدمات للمواطنين لضمان ولائهم.
في الجهة المقابلة، أكد البيت الأبيض رفض الرئيس الأميركي باراك أوباما تسليح المعارضة السورية، فيما أعلن وزير خارجيته عن النية لإيجاد سبيل إلى الأمام، والتفكير بخطوات دبلوماسية، ما يعني إصراراً على المضي بالحل السياسي عبر قناة موسكو وحوار المعارضة مع النظام، على أمل إنهاء حكم الرئيس الأسد، بالتأكيد تستند هذه السياسة المراوغة إلى ما تطرحه واشنطن من أسئلة حول جبهة النصرة، وعناصر القاعدة الذين يدخلون من العراق، وهي ترى أن الوضع في سوريا خطير وشديد التعقيد، خصوصاً لجهة وجود أسلحة كيماوية مقلقة بيد النظام، ما يستدعي عند واشنطن مراجعة الأمر وتقويمه، والنظر إلى أي خطوات دبلوماسية يمكن أن تتخذ لخفض العنف والتعامل مع الوضع، والوصول في نهاية الأمر، إلى إيجاد حل دبلوماسي للأزمة السورية، عبر دعم مبادرة رئيس الائتلاف الوطني معاذ الخطيب، وهي مبادرة لا تحظى بتأييد كافة أطياف المعارضة.
فيما تكتفي واشنطن بتقديم مساعدات إنسانية للاجئين السوريين، ومعدات غير قتالية، ليست ذات تأثير حقيقي على أرض المعركة، وتتبجح بأنها تنسق المساعدة العسكرية التي تقدمها دول خليجية، لمنع وقوع تلك الأسلحة في الأيدي الخطأ، وتستبعد دول الاتحاد الأوروبي رفع الحظر عن الأسلحة الموجهة إلى معارضي الأسد الوطنيين، ما لم يفتحوا نوافذ للحوار مع النظام، فإن جبهة النصرة والجهاديين والقاعدة، يجدون الفرصة الذهبية للتمدد في بلاد الشام، بعد أن خارت قواهم في العراق، وكأن المطلوب هو استمرار تهديد الجهاديين للحياة المدنية في هذا الجزء من العالم، وترك أمور قيادته لأشخاص يفتقدون حنكة القيادة، ومقلمي الأظافر، ويستندون في أمر بقائهم في مواقع الحكم إلى تأييد غربي ملتبس، يدفعهم لمزيد من الخضوع والاستكانة.
في الحالة السورية يبدو أن التوجه هو الإبقاء على نظام الأسد، ضعيفاً وعاجزاً ومهدداً على الدوام من جبهة النصرة، التي تتلقى اليوم دعماً غامضاً يمنحها القوة والقدرة على التأثير، فيما يتزايد ضعف المعارضة الوطنية وتسيل دماء السوريين دون تحقيق أهداف الثورة.