كانت لمرجعتيه الثقافية ومكانته الدينية في الجنوب العراقي، وما يمثّله هذا المكان من حاضنة لها جذورها الفكرية العميقة، ودخوله فضاء البحث العلمي الجاد، ودراسة العلوم الإسلامية 1978، كبير الأثر في توجهه العقلاني عبر مشروعه الثقافي، لإنقاذ ما تبقى في الدي
كانت لمرجعتيه الثقافية ومكانته الدينية في الجنوب العراقي، وما يمثّله هذا المكان من حاضنة لها جذورها الفكرية العميقة، ودخوله فضاء البحث العلمي الجاد، ودراسة العلوم الإسلامية 1978، كبير الأثر في توجهه العقلاني عبر مشروعه الثقافي، لإنقاذ ما تبقى في الدين من النزعة الإنسانية، التي تنفتح على فضاءات كثيرة، يطمح لاستثمارها وتكوين رؤية تكامل، تنهض على التسامح والاحتفاء بالآخر، وتتجاوز السياق المحليّ
أتاح له خروجه من بلده، بسبب ما تعرضت له الحياة السياسية والثقافية أثناء حكومة البعث آنذاك، الاطلاع على تجارب كثيرة، ساهمت في توسيع أفقه التنويري الذي أسس له. فبدا واضحا عبر مؤلفاته التي تجاوزت أربعين كتابا. أسس مركز فلسفة الدين في العاصمة بغداد في 2003 ، بعد عودته إلى وطنه. تصدر عنه سلسة كُتب ثقافة التسامح، التي وصلت إلى 12 كتابا،...، لمؤلفين من دول عديدة. أستاذ دراسات عليا للفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه والفقه. يرأس تحرير مجلة: قضايا إسلامية معاصرة، منذ عام 1997. مستشار تحرير لكثير من الدوريات في بغداد وبيروت. يشارك ولا يزال في الكثير من المؤتمرات والندوات الفكرية. حصل على العديد من الشهادات الأكاديمية منها: دكتوراه فلسفة إسلامية سنة 2005 ، وماجستير علم الكلام 1990 ، وبكالوريوس دراسات إسلامية 1988.
من مؤلفاته المطبوعة: نظرات في تزكية النفس 1985، حركة القومية العربية: دراسة نقدية في بواعثها الأيديولوجية 1985، متابعات ثقافية: مراجعات وقراءات نقدية في الثقافة الإسلامية 1993، موسوعة مصادر النظام الإسلامي/ في عشرة مجلدات 1996، مناهج التجديد 2000، علم الكلام الجديد وفلسفة الدين 2002، مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد 2005، تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية 2010، إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين 2012. التقينا به في بغداد، فكان الحوار الآتي:
• ما الذي يعد به مركزكم في بغداد، وما الفرق بين دراسته للدين والدراسات التقليدية المتعارفة؟
- المركز الذي أسسناه في بغداد "مركز دراسات فلسفة الدين". هو محاولة لتدشين أسلوب جديد في دراسة الدين، ينفتح على أفق واسع، ويتواصل مع المعطيات الحديثة والراهنة للعلوم الإنسانية، ومكاسب العقل والخبرة البشرية، ويوظفها في تفسير وتأويل النصوص الدينية، ومراجعة التراث وغربلته ونقده، والتعاطي معه باعتباره منجزا بشريا، محكوما بمشروطيّة زمانية/ مكانية خاصة، وتعبيرا عن واقع "سياسي، اقتصادي، ثقافي، لغوي"، يسود بيئة معينة. كما يوظّفها في تحليل واستبطان التجارب الدينية، والخبرات الروحية، والأحاسيس والعواطف والمشاعر المنبثقة من الدين، ونمط المعنى الذي يخلعه الدين على حياتنا، وقيمة وأثر ذلك المعنى في إرواء ظمأنا الأنطولوجي، وإثراء عالمنا الباطني، وبث السكينة والطمأنينة فيه، مضافًا إلى تهذيب سلوكنا. واكتشاف المنابع الدينية لمختلف الظواهر السائدة والمترسخة في مجتمعاتنا، والتعرف على آثارها في بناء أو تفتيت هذه المجتمعات.
ما تعد به فلسفة الدين، يتطلب الكفّ عن الموقف الارتيابي المسكون بالتوجس من فتوحات واكتشافات عقل الآخر، والشفاء من الفوبيا "الخوف" من كلّ ما هو جديد في العلوم والمعارف البشرية. في "فلسفة الدين" لا نحذر من الإفادة من سلة العلوم الإنسانية، وما انتهى إليه العقل البشري، من دون تجنيس هذا العقل أو تصنيفه: إثنيا، أو جغرافيا، أو لغويا، أو دينيا، أو ثقافيا.
فلسفة الدين لا يمكن أن تستغني في دراسة النصوص الدينية، والتجارب الدينية، والتراث، عن: اللسانيات الحديثة والمعاصرة، والهرمنيوطيقا وعلوم التأويل، وفلسفة اللغة، وعلم نفس الدين، وعلم اجتماع الدين، وأنثروبولوجيا الدين. إنّها مغامرة جسورة في عبور أنفاق الموروث، والانعتاق من تكرار الحواشي والشروح وشروح الشروح. بعد عشر سنوات من جهود مركز دراسات فلسفة الدين وإصداراته ومجلة قضايا إسلامية معاصرة في بغداد؛ قرّرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إدراج "فلسفة الدين" في المقررات التعليمية لأقسام الفلسفة في الجامعات العراقية.
• تعتقد أنّ دور الدين هو إعطاء الحياة معنى، ما الخطوات التي تمعنن الواقع بواسطة الدين؟ وهل يمكن تحقيق ذلك في بلداننا الإسلامية؟
- مما يؤسف له أنّ النموذج الممثل للدين في الحياة السياسية، ووسائل الإعلام، وغيرها، وفي الكثير من المساجد والمنابر، المعلن اليوم في بلادنا، الذي يصدر عنه ضجيج واستغاثة ونواح وتعبئة، عادة ما تعبر عنه جماعات سلفية، عجزت عن إدراك مضمون رسالة الدين في الحياة، وأغرقت أنفسها ومجتمعاتنا في نزاعات ومعارك يتجلى فيها كل شيء، سوى قيم التراحم والمحبة في الدين. عملت الجماعات على اختزال الدين في المدونة الفقهية فقط، ثم اختزلت هذه المدونة طبقا لمطامحها السياسية بأيديولوجيا صراعية نضالية. وقامت بترحيل الدين من حقله المعنوي الروحي الجمالي القيمي الأخلاقي الإنساني إلى حقل آخر، تغلب فيه القانون على الروح. أيديولوجيا أهدرت طاقات الدين وإمكاناته في إنتاج معنى لحياة الإنسان، وإضفاء معنى لما لا معنى له. وفي ذلك يكمن السبب العميق لمناهضة تلك الجماعات للتصوف والعرفان والفنون الجميلة، وافتقار أدبياتها إلى التعرف على المضامين القيمية والتجارب الروحية العميقة في التدين.
إنّ الحديث عن المعنى الذي يضفيه الدين على الحياة البشرية لمن يعتقد بأصالته وواقعيته، ولا يرجع جذوره لأسباب وضعية من تاريخ أو اقتصاد أو غيرها، ليس بالأمر الهيّن كما يبدو لأول وهلة، كما ليس بوسع شخص ما أنّ يدعي احتكار معرفته؛ لا لأن ذلك مرتهن بمقدار استيعابنا لجميع الأسئلة والمفاهيم والمناهج التي أفرزها الإنسان في مسيرته الطويلة، وهو ما يعقِّد البت في إشكالية المعنى، بل ولأن الحديث المشار إليه يواجه مشاكل أنطولوجية وإبستمولوجية بشأن علاقة النسبي بالمطلق، وإمكانية استكناه إرادة الذات الإلهية، وطبيعة وقيمة المعرفة البشرية وآلياتها ومناهجها في هذا الحقل. ولكي لا يفسر موقفي في هذه النقطة وكأنه "تعطيل" للمعرفة، كما كان يصطلح القدماء من مفكرينا في الحضارة الإسلامية، يمكنني الإشارة إلى دور الدين في منح الإنسان "هدفا" أو "أهدافا" تتجاوز وجوده البشري المحدود إلى الأبدية المطلقة التي يمثلها "الله"، وما يعنيه ذلك من تحصينات هائلة في مواجهة المشاعر والمواقف العدمية والفوضوية التي يمكن أن يغرق فيها الإنسان. كما بوسعنا الإشارة، أيضًا، إلى ما بات يسمى بـ"الأخلاقيات المؤسسة على الدين" ودورها في بث التعاون والتراحم، والألفة والمحبة، وأعمال البر والإحسان، في واقع البشر.
إن دراسة إشكالية المعنى في الدين قضية تقع في الصميم من معنى الكينونة البشرية، وهي بالإضافة إلى جديتها وعمقها وثرائها المعرفي، تنطوي على أبعاد شيقة وخصبة روحيا، لا يكاد يفلت من مداراتها العقل النقدي الشغوف بالحقيقة والمعرفة المتجددة.
• كيف يمكن تحديث التفكير الديني، ما هي الأولويات في ذلك؟
- تحديث التفكير الديني يعني إحياء واستلهام الميراث المعنوي العميق، واستدعاء التجارب الروحية التطهيرية التنزيهية السامية في التاريخ. وبناء إلهيات عقلانية مستنيرة، تحررنا من التفسيرات التعسفية القمعية للنصوص. وتحديث الإلهيات يتطلب الخروج من السياقات الكلاسيكية للتفكير الديني، وعدم التوقف عن طرح تساؤلات بديلة، والتوكؤ على منهجيات ومفاهيم مستوحاة من المكاسب الجديدة لعلوم التأويل وفلسفة الدين والمعارف البشرية، تفضي إلى التحرر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة للإله، تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية، وأسمائه الحسنى. وإنجاز مصالحة بين المتدين ومحيطه الذي يعيش فيه، والإصغاء لإيقاع الحياة المتسارعة التغيير، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا التي لا تكف عن مفاجأتنا كل يوم بجديد، تتبدل معه صورة العالم، وتختلف تبعًا لها أساليب تعاطينا مع الواقع، وتتيح لنا وسائل تكنولوجيا المعلومات والنانو والهندسة الجينية مغامرات وعي، توقظ عقولنا وتخرجها من الحالة السكونية، وتقدم لنا سلسلة معطيات ومعارف وأدوات، تصوغ لنا تصورات وإدراكات وأفكارًا، تتبدلّ معها رؤيتنا للكون والحياة.
• كيف يمكن تأسيس حوار مع الآخر، إذا كنا لا نملك حوارا إسلاميا/ إسلاميا جديّا، كما يصرح بذلك بعض الكُتّاب؟
- لا معنى للحوار مع الآخر دون معرفته. وأول ما تنطلق منه هذه المعرفة هو دراسة معتقدات الغير، إنّ لم نقل بتعاطف، فبتفهّم ورغبة باستيعاب الحقيقة، دراسة تمر عبر نصوصه ومدوناته الخاصة، وبالعودة المستمرة للخبراء والمختصين من دارسي تلك المعتقدات، بما فيهم أتباعها ومعتنقيها. لو أردت دراسة الهندوسية أو البوذية أو الطاوية، لا ينبغي أن تذهب إلى جامعة الأزهر في القاهرة، أو جامعة محمد بن سعود في الرياض، أو الحوزة العلمية في النجف وقم، إنما يجب أن تذهب لنصوص مؤسسي تلك الأديان، وتفاسيرها وشروحاتها من قبل رجال الدين والخبراء فيها، لكي تكتشف مقولاتها وما ترمي إليه.
تتأسس لبنات الحوار من المراحل التعليمية التمهيدية والإبتدائية، حين يتلقى الناشئة في مقرراتهم الدراسية صورة عن الأديان والمعتقدات والثقافات أولية، لا تنطوي على زيف وهجاء. عندما نلقّن أبناءنا مفاهيم مزورة عن آراء الآخر ومفهوماته، فإننا نسقيهم سُمّا، يغرس في أذهانهم كراهية الغير والنفور منه، ويوفر أرضيات خصبة في مشاعرهم لاستنبات وغرس كل الأفكار المتحجرة المتطرفة، التي لا تطيق أي شكل من أشكال التواصل مع المختلف دينيا وثقافيا. أطالع أحيانا رسائل جامعية مقدمة في جامعات سنية عن الشيعة، أو جامعات شيعية عن السنة، فأجدها غارقة بتشويه صورة المسلم المختلف، كذلك لا أستطيع الصبر على برامج الفضائيات الطائفية، وتشويهها لأبناء الملة. وأخشى أن يفضي الاستقطاب الطائفي الحاد إلى تفتيت ما تبقى من مجتمعاتنا.
جميع التعليقات 1
محسن العكض
الارضيات الخصبه كونت قاعدتها في مجتمعاتنا بسبب الترويض المستمر على الغباء والضحك على الذقون في بناء قوه ضاربه لمخالفينا. شكراً للرائع عدنان الهلالي على هذا الحوار والشكر كل الشكر للدكتور ع