(١) عند انطلاق قناة الجزيرة القطرية عُدَّت من وجهة إعلامية وسياسية، خرقاً صادماً يؤسس لعلاقة جديدة بين الشعوب العربية وحكامها، لما توفره من مساحة مفتوحة للرأي الآخر المقموع من النظام العربي الرسمي. وبسبب القهر والمصادرة المطلقة للحريات وتحكم الأنظم
(١)
عند انطلاق قناة الجزيرة القطرية عُدَّت من وجهة إعلامية وسياسية، خرقاً صادماً يؤسس لعلاقة جديدة بين الشعوب العربية وحكامها، لما توفره من مساحة مفتوحة للرأي الآخر المقموع من النظام العربي الرسمي.
وبسبب القهر والمصادرة المطلقة للحريات وتحكم الأنظمة الشمولية الاستبدادية في العالم العربي، لم تواجه المحطة والقيِّمون عليها بما عند أوساط سياسية وثقافية ناقدة، من تحفظات وتساؤلات حول سياسة الجزيرة ونهجها والأهداف المرسومة لها، ولم تكن تلك الملاحظات والتحفظات مجرد مُشاكسَة إعلامية أو سياسية مغرضة وحاسدة.
لقد كشفت قناة الجزيرة فجأةً المستور من فضائح الانظمة العربية التي تستر عليها الإعلام الرسمي، وأظهرت الى العلن المطمور من مفاسدها وتعدياتها على شعوبها، وبددت مثل فقاعة خرافة حصانة حدودها، واستعصاء عفة سلطتها على الانتهاك، وأسرار أقبيتها وسجونها ووسائل تعذيبها من الافتضاح والتعري.
وظلت الجزيرة، القناة، تنتشر في ارجاء العالم العربي وتتحول منذ الاشهر الاولى الى ظاهرة فريدة، تقتحم الاسوار المنيعة وتَهد البنى المترهلة المستبدة، وتقوض شرعيتها الاخلاقية والشعبية، وتستثير أحزان الشعوب المنكوبة بحكامها، وتكثف من أشجانها المطمورة.
إنها لم تكن مجرد قناة تلفزيونية في فضاء ظل مُحْكم الإغلاق، بل قذائف من نوع خاص تخترق الحدود وتتسرب الى البيوت والأندية ومهاجع الجنود والطلبة، وتفك لهم بالصوت والصورة، مشاهد سَبْيهم وتجريدهم من إرادتهم وانتزاع حناجرهم، والتلاعب بمقدراتهم وتبديد ثرواتهم.
والمفارقة العجيبة في ظاهرة قناة الجزيرة إنها لم توفر يميناً ولا يساراً، الا وتناوشت الذمم فيها وهتكت ما خفي في المخادع وما توارى خلف جدران المكاتب والدواوين.
وأصبح للجزيرة بحكم قدرة صنع الفضائح فيها وكشف المستور حظوة دولة عظمى، وبفضلها أصبحت قطر الجزيرة الملتمة على نفسها، كقطرة في محيط، مساحة ممتدة مفتوحة على كل فجٍ عميقٍ، تتطاول حتى لا يتسع لها مكان.
(٢)
لم يلتفت يومها احد أو يتوقف عند تناقضات ظاهرة الجزيرة، ولا أثار الاهتمام المخفي من وظائفها وأهدافها وفلسفتها، كما لم يتمعن حتى من كان عارفاً ببواطن الامور في من يقف وراءها ويخطط لها ويرسم خطوطها، ويستميل انحناءات خطوطها، وهي تغوص في البحر تارة، وتخرج مثل ألقٍ مزهوٍ بنفسه تارة أخرى. لقد ظل كل ذلك مؤجلاً، ومقيداً في سجلات مجهولٍ يتمنع، يبدو احياناً كما لو انه يعتمر طاقية إخفاء.!
لقد دوخت القناة الملوك والرؤساء العرب، وحاروا بدنياهم ودينهم الذي جردتهم منه الجزيرة وبلغ الحنق ببعضهم حد الشكوى لدى الولي الاعظم وراء المحيط، لعله يفك لهم اسرار حروف الجزيرة التي تغتسل كل يوم بالمياه الحارة لتستعيد عذريتها.
ومع ان النازلة كانت أشد وقعاً على زعماء التحرر الوطني وقادة دول الممانعة والصمود والتصدي، فإن تعويذتهم " التقدمية " لعبت دور المسكّن ضد وباء القناة وما يحوم حولها من شبهات الاستعمار والصهيونية.
وخلال الفترة الممتدة من لحظة اطلاقها، حتى السابع من نيسان عام ألفين وثلاثة، واصلت قناة الجزيرة دورها المزدوج، وهي تتقدم على سُلَّم أولوياتها السياسية، متشبثة بحصانتها، إلا في أوساط محدودة، ضعيفة التأثير في مواجهة اتهامات ينال من صدقيتها ونظافة ذيلها.
وفي خطٍ متوازٍ مع سقوط صدام حسين ودخول القوات الأميركية إلى العراق وإعلان احتلاله رسمياً بمباركة رسمية عربية "كُلية"، بدأت الجزيرة القناة والجزيرة المشيخة، دورهما "القومي" ضد الولايات المتحدة المحتلة، وشنتا حملة "جهادية" واسعة النطاق ضد العراقيين، ومهدتا عبر التمويل والإسناد المعنوي والإعلامي لغزو الأراضي العراقية من قبل قتلة تكفيريين وأفاقين من شتى البلاد العربية، يتوشحون بلباس الجزيرة العربية ويتنكرون تحت لافتة "المقاومة" المتهرئة، ويتمنطقون بالأحزمة الناسفة، وهم يفجرون أنفسهم وسط تجمعات العراقيين العُزل المسالمين النابذين للاحتلال المتفائلين بسقوط الطاغية.
وفي الوقت الذي كانت قناة "الجزيرة" تسجل جرائم الإرهابيين، وتبثها كمآثر جهادية، كانت القوات الأميركية والمتعددة الجنسية تجدد حيويتها في ربوع الجزيرة لتدخل بأمان إلى العراق، تواصل مهامها الاحتلالية بعد ان انتهت مهامها العملياتية المنطلقة من قاعدتها العسكرية الأكبر في قطر.
ولأول مرة، انكشف الغطاء عن التناقض الحاد بين قطر "الحاضنة" للمركز القيادي العسكري والمخابراتي العملياتي للولايات المتحدة الاميركية في المنطقة، والحليفة الاثيرة لها ولاسرائيل ودورها الجديد في تأمين الدعم المالي والاعلامي واللوجستي للجهاد ولاميركا في ذات الوقت.
(٣)
ولم يقتصر التناقض على مزدوجي "الجهاد وأميركا" بل تعداهما إلى طائفة من التناقضات العسيرة على الهضم. فالمشيخة القطرية مدينة في حضورها للولايات المتحدة التي ترتبط بها بتحالف استراتيجي، وصفها ذات مرة، الشيخ حمد بن جاسم نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري بأنها " تثير حسد الملوك والرؤساء العرب وتُسيلُ لعابهم"! وهو سبب عداوتهم في هجومهم على دولة قطر. كما ان شيخ قطر الذي انقلب على ابيه واغتصب السلطة منه يُدينُ بفضلٍ لإسرائيل عليه، لا أقل من فضل ادارة المخابرات الاميركية لمدها يد العون اليه خفية ومساعدته في انجاح عملية الاغتصاب السياسي، وتوفير الغطاء والحماية غير المرئية لمشيخته.
واظهر تفجير القاعدة لبرجي التجارة الدولية في نيويورك عام ٢٠٠١ تناقضاً سافراً، بين "تبعيّتها" لواشنطن وتحالفها مع إسرائيل، وسياسة الجزيرة "الحاضنة" للاخوان المسلمين ومركزهم الدولي، وانفرادها الاثير بتسجيلات بن لادن الجهادية وسبقها الإعلامي في بث وقائع عمليات القاعدة وانتحارييها في شتى اصقاع وامصار العالم.
وبدت قطر المشيخة "النانوية" من حيث المساحة على خارطة العالم، كما لو أنها تخوض معركة " تحدٍ قومي" ولي اذرع مع الادارة الاميركية، وهي الرابضة في أحضان أقوى معسكر أميركي في العالم خارج الولايات المتحدة، لجهة تكنولوجيا اسلحتها المتطورة الضاربة وعُددها وعديد قواتها وكثافة نيرانها، ولم تأبه للانتقادات اللاذعة التي وجِهَت لها من القيادات الأميركية، بل خاضت ضدها معركة "كفالة حرية الإعلام الدولي"!. ودخلت في تدرج مدروس على خط التنافس الإعلامي السياسي، بدءاً من احتلال العراق مع "جوهرة واشنطن "cnn " و "cbc" واخذت تتواجد على خطوط النيران، في كل حدثٍ وتفجيرٍ وعملية انتحار، وسجلت كاميراتها، وقائع انتحارية و"جهادية" مع لحظة وقوعها، مما كان يشي، بتنسيق مع القائمين على العمليات الإرهابية، وعلى الأخص القاعدة وامتداداتها.
(٤)
وغرائب جزيرة قطر "النانوية" تتسع رقعتها السياسية لتكوّن وتؤمن في نفس الوقت حاضنة محميةً للشيخ القرضاوي، أمير مؤمني الإخوان المسلمين في العالم، بجوار المعسكر الأميركي العملاق ومكتب التنسيق الإسرائيلي!. وفي فصل سياسي غرائبي مثير، تستضيف المشيخة وتُكرم أسرة المقبور صدام حسين ورموز نظامه من القيادات والكوادر البعثية وتضعهم تحت تصرف عرابَيْها، الاميركي والاسرائيلي، للاستفادة من خدماتهم في صولاتها ومعاركها في العالم العربي دون أن تبخل بخدماتها، لكل المعارضات، سواء بالدعم المالي أو بعقد المؤتمرات او الإيواء، او ما تراه مناسباً لتمكينها من بلوغ أهدافها.
وبفعل دورها، استحقت بجدارة لقب إمبراطورية قطر، وخرجت بذلك من واقعها "النانوي".
--تنويه
وقع خطأ مطبعي في إحدى جمل افتتاحية رئيس التحرير المنشورة في عدد أمس بعنوان "الاحتجاج الوطني العابر للطوائف"، في نهاية الفقرة رقم (4)، والصحيح كما يلي:
إن مثل هذا النزوع، إنما يعزز الاستقطاب الطائفي والفئوي المقابل، ويزكي النهج المغامر لرأس السلطة ويخدم توجهاته لتعميق الأوهام التي يشيعها أنصاره في أوساط شيعية واسعة، يدلل من خلالها بصواب سياسته التي تشكل مصدّاً في مواجهة "التآمر" المشبوه.
جميع التعليقات 2
كاطع جواد
ليس هناك تناقض في موقف إدارة قناة الجزيرة فجزء من الخداع الإعلامي هو إظهار قناة ألجزيرة بموقف المحايد بل بموقف المدافع عن الهم الاسلامي اولا والهم العربي بالدرجة الثانية وعلينا ان لا ننسى ان اي قناة تلفزيونية هو مشروع استثماري قبل ان يكون إعلامي حر على ال
علاء احمد
لطالما بح صوتي منذ بداية سقوط الطاغية و نحن نكرر و نقول ان قناة الجزيرة قتلت من العراقيين اكثر مما قام به الامريكان. لقد سنت هذه القناة على الشعب العراقي حرب ابادة ضد مكونات الشعب الرافض لصدام و بعثييه. استظافت هذه القناة التكفيريين و السلفيين و المناؤين