في سراديب سياسة العراق اتصالات لا تتوقف وتنازلات تقدم كل ساعة، وفريق السلطان مرعوب من حراك الانبار ونينوى. الحراك هذا ثمرة لمناخ سياسي معارض من داخل الحياة الدستورية، وسنبدأ برؤية نتائج اوضح خلال ايام كما يبدو.
اول كلمة علي ان اقولها هنا انني لا احب كلمة "زحف" مع احترامي للمنظومة الاصطلاحية التي تنتجها. ان حمولتها العسكرية والمتشددة تجعلني اتردد في استخدامها، لكنني متحمس لفكرة ان يقرر متظاهرو الرمادي القدوم الى بغداد، لان ذلك يشجعني اكثر على ان استوعب معنى السنوات العشر الماضية واختلافها عن السنوات العشر المقبلة.
هكذا ارسم الاعوام العشرة الماضية في رأسي. السنوات الخمسة الاولى كانت قائمة على هاجس امني، مع خمس مفخخات في اليوم على مدار السنة وثلاثة بيانات بصوت الزرقاوي كل شهر، ورد فعل ميليشياوي هستيري، والجميع يصرخ في وجه الجميع دون ان يفهم احد ما يجري.
بعد ألفين وثمانية قدم لنا طيب الذكر الجنرال بترايوس مع شباب الانبار خدمة وطنية كبيرة بطرد القاعدة ومحاصرتها، وقام الجنرال الاسمر لويد أوستن بانقاذ السيد نوري المالكي من جيش المهدي في البصرة وكانت النتيجة ان التيار الصدري تخلص من متشدديه وصار مهيأ لولادة سياسية جديدة جعلتنا نكسب شبابا شجعانا في برلمان ٢٠١٠.
بعد ٢٠٠٨ ظهرت ظروف وأولويات سياسية مختلفة، لم يعد الامن شغلنا الشاغل وتراجع في سلم اهتماماتنا، وصرنا اقدر على الحديث عن احلامنا الليبرالية والمدنية، ونجحنا في الانتباه لاحلام التسلط لدى الفريق السياسي والعسكري لنوري المالكي. بعد الانتخابات تشكلت اول جبهة عابرة للطائفية تعارض منح المالكي ولاية ثانية. وبعد شهور على نجاحه في البقاء على "الكرسي الهزاز" كان العراق مهيأ نفسيا للبحث عن اولويات جديدة، فظهر اقوى حراك شعبي لشباب شباط هز كرسي المالكي بقوة. هدأت المظاهرات فشعر انه انتصر، لكن سرعان ما فاجأه حراك تحالف ١٩ ايار في اجتماعات اربيل والنجف، وهو حراك منح المحتجين على نهج السلطان زخما جديدا، وجعل من البلاد ورشة لتعلم قواعد اللعبة التعددية.
كل هذا المناخ اتاح لشباب الانبار الذين طردوا القاعدة زخما منحهم صبر الوقوف ٥٠ يوما في البرد للمناداة برحيل سلطان يشتهي الاستبداد. لم يتعبوا وصاروا يبتكرون طرقا عديدة لادارة لعبة قاسية مع المالكي هي اشرس اختبار له. لم تأخذهم العزة بالاثم واستمعوا للنصائح وقاموا بتنضيج شعاراتهم. وجدنا رجال الدين من الطرفين يطورون اداءهم، والشيخ السعدي قدم مع السيد الصدر اداء طيبا. المالكي كان يحب ان يرى نزاعا اهليا، واغضبه ان يرى تعاطف القوى الديمقراطية ومعتدلي الشيعة والاكراد مع حراك المنطقة الغربية. راح هو يظلل الرأي العام وهيأ المناخ لظهور امثال واثق البطاط، لكن السيد البطاط فشل، بينما نجحت هناء ادور مع عشرات المنظمات وصانعي الرأي العام في الوقوف الايجابي مع تيار الاحتجاج المعتدل لتقويته وجعله يتغلب على محاولات اختراقه من قبل البعثيين.
الشباب الذين طردوا القاعدة يقدمون اداء يثير اعجاب الجميع ويحاصر طموح المالكي بالتفرد. قالوا: سنأتي الى بغداد، وسيبذل هو جهده لمنعهم، لكن اعلانهم تلك الرغبة لوحده جعل المالكي والكثير من الاطراف الداعمة له تدرك لاول مرة ان المسار المعارض للمالكي عابر للطوائف ومؤثر جدا ولا يمكن اخضاعه بسهولة.
الاتصالات المكثفة التي تجري وراء الكواليس ونسمعها من اصدقائنا في كل التيارات، رسالتها ان داعمي المالكي من شركات البترول الى ماوراء هضبة زاغروس، وعبر الاطلسي، بدأوا يدركون ان التعدد السياسي امر واقع لا يمكن تجاوزه، وان معارضي التسلط يمتلكون خيالا خصبا وينجحون في تدويخ المالكي ومن يقف وراءه وان العراق لن يدار من قبل رجل واحد.
ان حراك الشباب يثبت لنا يوما بعد اخر انه قادر على تقويم نفسه، وقادر على إسماع عواصم التدخل ان صفقة الداخل العراقي لها كلمة عليا وعلى الخارج ان ينصت لها باهتمام. قبل ثلاث سنين ويوم اختيار المالكي ثانية، كتبت ان "صفقة الداخل ناجحة حتى لو خسرت". اي ان معارضي المالكي نجحوا عبر حوار الداخل في تقديم بروفا وتمرين اداء يخسر جولة لكنه سيربح اخرى في المستقبل. ان المستقبل يتحقق اليوم، وانصار التعدد ورفع الظلم ينجحون ويؤثرون ويعزلون السلطان ببطء، ليكون درسا بليغا لكل زعيم يحلم بسلطنة مشابهة.
احلى ما في احتجاجات الرمادي انها بدأت تدرك قيمة الاحتجاج من داخل الشرعية التعددية، وتستفيد من الحياة البرلمانية، وتنسق مع المجتمع المدني. ان حراكا كهذا تظهر له نتائج تدريجية سترسخ تقاليد حماية الانفتاح ومعايير القانون للمستقبل. لن نتعب من الاحتجاج لان "صفقة الداخل" هي التي ستنجح في نهاية المطاف رغم كل "الالام الانتقالية" او "آلام الفطام" التي تحدث عنها المفكر الموريتاني عبدالله ولد اباه امس وهو يشرح كيف احتاجت فرنسا ١٠٠ سنة لتنتقل الى الديمقراطية الناضجة.
انني اكره هذه الكلمة لكن "زحف" قوى الاحتجاج واصرارها منذ ٢٠١٠ على كبح جماح التسلط، امر يؤتي ثماره. ولهذا لن نتعب.
جميع التعليقات 2
كاطع جواد
الشعوب دائماً أذكى من حكامها فهي تنظر الى الامام بينما الحاكم ينظر تحت قدميه وهذه المقاربة نجدها هذه الايام في ثورات الربيع العربي وفي الاحتجاجات على الاستبداد والتفرد بالحكم ...فالزعيم الذي يشاطر شعبه الرؤى هو الزعيم الافضل والأنجع وأما الذي يتشبث بالكر
عبد الرزاق السماوي
تحليل جميل وموفق