• ما البضاعة الجديدة التي حملتها تجربة المثقف العراقي الإسلامي المغترب؟ وهل استطاعت أن تؤثر في الواقع؟ - لا أريد أن أبخس جهود النخبة العراقية الوطنية المرابطة في العراق، ومعاناتها، وألمها، فترة هيمنة فاشية حزب البعث. لكن أود أن أشير إلى بطش الس
• ما البضاعة الجديدة التي حملتها تجربة المثقف العراقي الإسلامي المغترب؟ وهل استطاعت أن تؤثر في الواقع؟
- لا أريد أن أبخس جهود النخبة العراقية الوطنية المرابطة في العراق، ومعاناتها، وألمها، فترة هيمنة فاشية حزب البعث. لكن أود أن أشير إلى بطش السلطة وقمعها اضطرتهم للغياب سنوات طويلة. وأن الحصار في التسعينيات من القرن الماضي حطّم البنية التحتية للثقافة العراقية، والمؤسسات الثقافية كافة، وغيّب عن العراق الإنتاج الفكري الجديد، مع تعطيله حركة الطباعة والنشر، فصمتت الثقافة والمثقف العراقي. بين هلالين (أنا لا أتحدث عن ثقافة ومثقفي صدام حسين، إنما أعني جماعة من المثقفين الأحرار، ممن مكثوا في وطنهم في تلك الظروف البالغة العنف والقساوة).
أما المثقف العراقي الجاد في المنفى، فواصلَ تجربته الإبداعية، وتراكم بمرور الأيام رصيده وإنتاجه الفكري، وتطوّر تكوينه الأكاديمي والمعرفي واللغوي، بما أتاحه له مهجره، بخاصة في تلك البلاد التي تمنح اللاجئين، بعد سنوات قليلة، حق اكتساب الجنسية، والتعليم، والضمان الاجتماعي والصحي، وتوفر لهم حرية واسعة للتفكير والتعبير والكتابة. لا يمكن أن ننسى مبدعين عراقيين أنجزوا أعمالا متميزة في المنفى، تركوا بصمتهم في الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة. وأضحت آثارهم مراجع إلهام للدارسين والباحثين.
هل يمكننا استبعاد آثارهم، وإسقاطها من الذاكرة، واعتبارها ليست عراقية؟! هل يمكن تجاهل ما أبدعه في المنفى: محمد مهدي الجواهري، مصطفى جمال الدين، عبد الوهاب البياتي، طه جابر العلواني، سركون بولس، سعدي يوسف، فوزي كريم، فاضل العزاوي، هادي العلوي، نجيب المانع، صلاح نيازي، كاظم جهاد، شاكر لعيبي، غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، عبد الله إبراهيم، عبد الرحمن مجيد الربيعي، شوقي عبد الأمير، فاطمة المحسن، عالية ممدوح، محسن الرملي، صموئيل شمعون، نجم والي، لطفية الدليمي، سميرة المانع، انعام كججي، ميسلون هادي، فالح عبد الجبار، رشيد الخيون، سعيد الغانمي، عمار أبو رغيف، هشام داود، كامل شياع، ضياء العزاوي، جبر علوان، صلاح جياد، فيصل لعيبي، رافع الناصري، عفيفة لعيبي، ستار كاووش، يحيى محمد، إبراهيم الحيدري، حسن العلوي، حسن ناظم ، فلاح رحيم، علي حاكم، عبد الجبار الرفاعي، صائب عبد الحميد، غالب الشابندر، جودت القزويني، ماجد الغرباوي، خالد توفيق، إبراهيم العبادي... والقائمة طويلة جدا وحافلة بالعلماء والباحثين والروائيين والشعراء والمترجمين والنقاد والفنانين. يضاف إلى هؤلاء أصحاب المشاريع الثقافية الهامة والناشرون، مثل: فخري كريم "المدى"، خير الدين حسيب "مركز دراسات الوحدة العربية"، خالد المعالي "دار الجمل"... لست بصدد استقراء شامل لجهود المثقفين العراقيين في المنفى، ذكرت نماذج فقط.
إنّ المنجز الثقافي وما يعد به المثقفون في المنفى، يفتقر إليه العراق الآن، من حيث راهنيته، وتنوعه، وكفاءته، وثرائه. العارفون بهذا الإنتاج يدركون قيمته وضرورته في التنمية الثقافية، وإمكاناته في إعادة بناء الأكاديميات والتعليم العالي. أتمنى أن يوثّق هذا المنجز الواسع، بتبني وتوجيه وزارة الثقافة في بلدنا، بإعداد ببليوغرافيا شاملة تستوعبه، وتتاح على الإنترنيت للجميع. وقتئذ سندرك ما قدمه أولئك المجهولون المضحّون بمتعهم الحسية، وراحتهم الجسدية، ممن اعتكفوا سنوات طويلة في مكتباتهم، واستنزفوا عمرهم في جهد مضني، من أجل أن ينحتوا لنا صورة بديلة للعراق في منفاهم.
• كيف ترى ما حصل في البلدان العربية (ربيع عربي) من وجهة نظر ثقافيّة؟
- أنا منحاز للحرية أبدا. وهي شرط لكل ما هو صحيح وضروري في الاجتماع البشري، لا شيء حقيقياً من دون حرية، حين تغيب يسود: التمويه، التضليل، الحيلة، الدجل، النفاق، الازدواجية، ومختلف أنماط التشوهات النفسية والأخلاقية والسلوكية... لا يمكن شفاء مجتمعاتنا من عاهاتها، وخروجها من نفق التخلف، ومأزقها الحضاري إلا بعد توافر الحرية. السلطات الشمولية في البلدان العربية تسوّغ فاشيتها بتخويفنا من الإرهابيين، والسلفيين، وجميع أعداء الحرية، بل أحيانا ترعى وتدرب وتموّل وتوجّه أجنحة خاصة بها من تلك الجماعات، بغية نفورنا من المستقبل، وإخضاعنا طوعية لعبوديتها، عبر استخدام خطاب سياسي، يشي بسد الذرائع، وتقديم الفاسد على الأفسد، حسب منطق "التزاحم" في أصول الفقه.
لا أخاف من أي مسعى لاسترداد كرامتنا المستباحة، وحريتنا المغدورة. الربيع العربي صرخة كرامة وحرية عميقة، تفجّرت بعد عشرات السنين من الفتك والدم المسفوح في أقبية زنزانات الأنظمة العربية. عشت سنوات شبابي في معاناة مريرة مع حزب البعث في العراق، خضعت مثل غيري من مواطنيّ إلى أساليب شنيعة من إهدار الكرامة، بذرائع وخدع ماكرة، يلخصها شعار حزب البعث الصاخب، منذ 1968 : "كل شيء من أجل المعركة". ورّطنا صدام وحزبه بمعارك وحروب مهولة، لم تكن أية واحدة منها تجسيدا للشعار الخدعة. أتت تلك الحروب على كل شيء في وطني، من دون أن نتوجه إلى المعركة الموعودة / الذريعة ... في فلسطين.
مهما تكن المآلات والنتائج أرى نورا تضيئه شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام". أتفهم جيدا أن الحرية أثمن ما يمكن أن يظفر به الإنسان، فلا يمكن أن توهب الحرية للشعوب بلا أوجاع وآلام. لذلك؛ فسيواجهنا بعد سقوط الحكام المزيد من العواصف والاختلالات والاضطرابات السياسية والمجتمعية، كل ذلك نتيجة لعشرات السنين من سلطة حزب واحد، ورأي واحد، وشعار واحد، ورجل واحد كرّس كافة ثروات البلد وموارده في إنتاج ثقافة منقوعة بالنزعات التعصبية، ومناهج تربية وتعليم تدجّن المواطن على قبول العبودية الطوعية، وتُرسّخ نفسية العبيد في المجتمع.
• لكن، ألا تخشى من مآلات الربيع العربي، وما انتهى إليه في تونس ومصر وليبيا...؟
- الجماعات الإسلامية هي وحدها المنظمة في البلاد المشار إليها . تدير شبكات تهيمن على مجالات هامة في الاجتماع العربي. لديها براعة في تعبئة الناس وتحشيدهم خلف شعاراتها، بواسطة عدد وفير من الدعاة وخطباء المنابر وأئمة الجمعة. لذلك استطاعت هذه الجماعات احتواء الربيع العربي، وقطف مكتسبات جهود الشباب الثائرين من أجل الحرية والكرامة.
أتيحت لهذه الجماعات فرصة تاريخية هامة في الاستيلاء على المجال العام، وقضم السلطة بالتدريج، وابتلاع الدولة. واحتكار تمثيل المجتمعات، واختزال التنوع الإثني والديني والمذهبي بأيديولوجياتها الخاصة، والتوكؤ على الديمقراطية والانتخابات كسلّم يستخدم لمرة واحدة، حتى إذا تحقق الغرض منه طرح جانبا! من دون وعي لفلسفة الديمقراطية ومضمونها الحقيقي، من الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة.
لست متنبًأ، بيد أن كل الوقائع تحدثنا عن فشل الإسلاميين في إدارة السلطة، وجهلهم بتشكيل الدولة. ربما تمسي السلطة مقبرتهم، بسبب عجزهم وقصورهم في إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة، ذلك إن نموذجهم في الدولة هو دولة الخلافة، أو الدولة السلطانية، وهي نمط ينتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة.
يفتقر الكثير من مسؤوليهم في السلطة، إلى أي تكوين أكاديمي أو معرفي أو فكري، يؤهلهم لإعداد نظم وبرامج وخطط اقتصادية وإدارية وتربوية وعلمية وثقافية معاصرة، فضلا عن عدم توفرهم على تدريبٍ وخبرة عملية في إدارة السلطة، وصياغة مؤسسات الدولة. إنهم يفكرون في إدارة السلطة وبناء الدولة بفقه: "الأحكام السلطانية"، و"الخراج"، و"أحكام أهل الذمة". ويتلهفون إلى استدعاء الأنماط التاريخية في الاجتماع السياسي الإسلامي كما هي، بلا وعي للزمان والمكان والأطر الاجتماعية للمعرفة. يحرصون على إحضار كل ما هو موروث، حتى القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العتيقة. إنهم يغرقون في كهوف الماضي، ويفرطون في استهلاك التاريخ، وكأنهم لا يعيشون في عالمنا إلا بأبدانهم، في حين تلبث عقولهم وأرواحهم مع الموتى.
• إذا كانت هذه الجماعات لا تكف عن الاشتياق للماضي، وتعمل على استرداده بتمامه، كيف تستشرفون مصيرهم في السلطة؟
- ربما تكون السلطة مقبرة الجماعات الإسلامية. مضافًا إلى ما أشرنا إليه من افتقارهم للتأهيل والخبرة والتجربة، يضيق صدرهم بالحوار والمناقشة والمراجعة، فضلًا عن عجزهم عن الإصغاء للنقد وفضح الأخطاء. إنهم يتحدثون دائما باعتبارهم المفوضين من الله تعالى، والناطقين باسمه، والأوصياء على عباده. لو طالعنا أدبيات الإخوان المسلمين منذ تأسيسهم، عام 1928 في الإسماعيلية على يد المرحوم حسن البنا، حتى اليوم، وهكذا غيرهم، لا نعثر على أية مراجعة نقدية لرؤاهم وممارساتهم السياسية والدعوية، ما خلا محاولة المرحوم "حسن الهضيبي" في "دعاة لا قضاة"، التي لم يعبأوا بها، وسرعان ما تنصلوا منها، وأسقطوها من نصوصهم. لو راجعنا أدبياتهم وخطبهم المنبرية والسياسية ووسائل إعلامهم، فإن الكلمات الأكثر تكراراً، هي: الأعداء، المؤامرة، المتآمرون، الموت أسمى أمانينا، ومرادفات تلك الكلمات أيضا.
الرئيس محمد مرسى لم يمض على رئاسته أكثر من ستة أشهر، لكنه قدّم 24 بلاغًا للقضاء ضد الصحافة والصحفيين، في حين لم يقدّم الرئيس السابق: حسني مبارك سوى 6 بلاغات في ظرف 32 عامًا فترة حكمه. وحسب فقهاء القانون في مصر، فإن التشريع الذي قدّم بموجبه مرسي بلاغاته صدر قبل مئة عام تقريبًا، لإحترام الذات الملكية في العصر الملكي، لكن لم يتقدم الملوك والرؤساء السابقون لمرسي بمجموعهم في مئة عام بهذا العدد من البلاغات ضد الصحفيين، بينما ضجر هو وجزع من نقد الصحافة لإدارته والإخوان للسلطة! لعل التربية المكثفة على "بيعة المرشد"، و"السمع والطاعة" له، المشهورة في أدبيات الإخوان المسلمين، رسّخت في وجدانهم وضميرهم، لزوم انصياع المواطنين وطاعتهم العمياء للرئيس، ذلك انهم "رعية" تكليفهم وواجبهم الشرعي "السمع والطاعة".
لم يدرك الرئيس محمد مرسي وغيره من أتباع الجماعات الإسلامية، أن لا بيعة على "السمع والطاعة" في الديمقراطية، بل إن البيعة تنتمي إلى جغرافيا مفهومية تحيل إلى تراث الفقه السياسي، فيما تنتمي الديمقراطية إلى بنية مفهومية مغايرة، مشتقة من الفكر السياسي الحديث، الذي يتناشز ومضمون البيعة وما يترتب عليها.
إنّ جيل تكنولوجيا المعلومات لا معنى لمفهوم البيعة في تفكيره، بمعنى أنها لا تحيل في ذاكرته إلى ما ينشده ويتطلع إليه من أحلام، في تأسيس نموذج للحياة السياسية يستوعب ما يحفل به المجتمع من تنوع، ويضمن حق الاختلاف والتعددية والتداول السلمي للسلطة. نموذج الشباب السياسي ودولتهم التي يهتفون لها، في ساحة التحرير في القاهرة وغيرها، ليست في الماضي، إنما نموذجهم ومثالهم الديمقراطية، بكل فلسفتها وحمولاتها و دلالاتها وآفاقها ووعودها في الحريات والحقوق.
وأخيرًا، أود أن أشير إلى شحة تداول أدبيات الجماعات الإسلامية لمصطلحات: "وطن، وطنية، مواطن، تعددية، تنوع، اختلاف، تداول سلمي للسلطة، انتخابات، حريات، حقوق...". مما يعني أن الأفكار التي تحيل إليها تلك المصطلحات، وغيرها من مفاهيم الدولة الديمقراطية، لم تستقر في بنية التفكير السياسي للإسلاميين. فكيف يمكن أن ينجحوا في إشادة دولة ديمقراطية تعددية، نصابها: "الوطن، المواطن، المواطنة، الحقوق، الحريات"، وليس: "الراعي، الرعية، البيعة، السمع والطاعة"؟!