أفردَ مهرجان روتردام السينمائي الدولي لهذا العام "38" فيلماً طويلاً لمحور "مستقبل مشرق"، الذي يضم عادة مواهب شابة تعِد بتجارب سينمائية متميزة، وكان فيلم "زيبا" للمخرجة الإيرانية خوشنودي هو أحد هذه الأفلام المنتقاة لأكثر من سبب فهو ينطوي على ثلاث قضاي
أفردَ مهرجان روتردام السينمائي الدولي لهذا العام "38" فيلماً طويلاً لمحور "مستقبل مشرق"، الذي يضم عادة مواهب شابة تعِد بتجارب سينمائية متميزة، وكان فيلم "زيبا" للمخرجة الإيرانية خوشنودي هو أحد هذه الأفلام المنتقاة لأكثر من سبب فهو ينطوي على ثلاث قضايا رئيسة، إضافة إلى بعض القضايا الثانوية التي تعتبرها المخرجة خوشنودي أقل أهمية من سابقاتها أو أنها لا تستطيع أن تتعاطى مع هذا القدر الكبير من القضايا الإشكالية التي تؤرق المجتمع الإيراني المعاصر. ركزّت خوشنودي على قضية الاغتراب الذي يعاني منه الإنسان الإيراني، رجلاً كان أم امرأة، متعلماً كان أم أميّاً، غنياً كان أم فقيراً. فالبَطلان الرئيسان في هذا الفلم هما فرهاد وزيبا ينتميان إلى الطبقة المتوسطة العليا، وقد ذهبا للدراسة في المملكة المتحدة، وتخرجا في إحدى جامعاتها، وعادا إلى طهران متزوجين إثر علاقة عاطفية هادئة. لم توضح كاتبة القصة السينمائية ومخرجة الفلم خوشنودي الأسباب الحقيقية التي شلّت حياة "زيبا" وأرهقتها إلى حد الإنهاك حتى بدت وكأنها مريضة أو مصابة بداء الشقيقة لأنها كانت تعصر صدغيها على مدار الفلم. ونتيجة لهذا الاغتراب الروحي والجسدي في آنٍ معاً بدأت "زيبا" تشعر بالسأم والضجر الكبيرين الذي قد نعزوه إلى الروتين المهيمن على حياتها اليومية من جهة، وربما إلى برودة العلاقة العاطفية بينها وبين زوجها فرهاد الذي لم يسعَ إلى كسر هذا الحاجز الذي بدأ يرتفع بينهما، وحينما راجعت الطبيبة النفسية سألتها الأخيرة أسئلة دقيقة تضرب في الصميم، لكن إجابات "زيبا" لم تعكس أي تذمّر من زوجها خاصة أو من حياتها الأسرية بشكل عام، غير أننا كمتلقين كنّا نستشف أنها تشعر بالاختناق ولهذا قرر زوجها أن يأخذها في رحلة قصيرة إلى بحر قزوين في إشارة إلى أن المواطن الإيراني بحاجة ماسة إلى الراحة والاستجمام بسبب الضغوط النفسية الناجمة عن القمع الذي تمارسه السلطة الثيوقراطية على المجتمع برمته، ولعل الفصل بين الجنسين هو من أشدّ القضايا الحساسة التي برزت إلى السطح بعد وصول الأحزاب الإسلامية إلى سُدة الحكم وتشبثهم فيها. لم نرَ "زيبا" تختلط بالآخرين كثيراً، وإنما كانت منطوية على نفسها وتختلق الأعذار لتدهور أوضاعها النفسية التي أخذت تتفاقم يوماً بعد يوم. أما القضية الثالثة فهي القمع بمعناه الأوسع الذي يصادر الحريات الخاصة والعامة ويحوّل الحياة اليومية إلى جحيم لا يُطاق. وحينما يذهبان في الإجازة الاستجمامية إلى بحر قزوين يعرّجان في طريقهما على إحدى البنايات التي يملكها زوجها فرهاد، لكنه يجبرها على البقاء في جوف السيارة الحار خشية أن يراها العمال الذين ينقلون أثاثاً منزلياً للشقة السكنية التي يروم الدخول إليها بغية توقيع بعض الوثائق الرسمية، وحينما ينزل من الشقة يكتشف أن "زيبا" قد تركت السيارة وغادرت المكان ولم تأخذ معها هاتفها النقّال، ولأنه مضطر لأن يغادر المكان لجلب بعض الوثائق الناقصة تعْلق "زيبا" في بيت أسرة مفككة تماماً طُردت لتوها من ألمانيا لأنها لا تمتلك جوازات سفر رسمية، فالأب يشكو من زوجته المطلقة ومن ابنته التي عاشت ست سنوات في ألمانيا وتغيرت قيمها الأخلاقية بالمرة، وهي لا تجد حرجاً في توبيخ والدها. لقد عاشت "زيبا" ساعات مريرة وهي تستمع إلى شكاوى الأب وابنته، بل أن الأب عاجز تماماً ويشعر بشلل كامل لهذا يطلب مساعدة "زيبا" وهي العالقة في موقف لا تُحسد عليه. تتعقد الأمور حينما لا تجد وسيلة للاتصال بزوجها فتضطر لأن تطلب هاتفاً نقالاً من أحد العاملين الذين كانوا يفرغون الأثاث، ثم تكرر محاولة الاتصال من إحدى ساكنات البناية لكننا نكتشف أن صاحبة المنزل قد ألغت الاتصال بالهواتف النقالة، وحينما تطلب "زيبا" سيارة تاكسي يخبرها صاحب المكتب بأن أقرب سيارة سوف تعود بعد خمس وأربعين دقيقة. وهكذا تظل "زيبا" تنتظر حتى يعود فرهاد ويوقع الوثائق الناقصة مؤنباً إياها لأنها تركت السيارة وولجت إلى منطقة مشجرة مجاورة للبناية. كان المذياع حاضراً بقوة على مدار الفيلم ويبدو أن المخرجة خوشنودي قد انتقت الأخبار التي تتحدث عن البرنامج النووي الذي أدخل إيران في مواجهة غير متوازنة مع المجتمع الدولي، فالسلطة الدينية توعد مواطنيها بأن المشروع النووي سوف ينير إيران من أدناها إلى أقصاها، لكنها قد تقود البلاد والعباد إلى كارثة كبيرة غير محمودة العواقب، خصوصاً وأن الذراع الأميركية في الشرق الأوسط مهيأة في كل الأوقات لأن تصبّ حممها على كل المفاعلات النووية دفعة واحدة وتحول إيران إلى جحيم لا يُطاق.
خلاصة القول إن المخرجة خوشنودي قد خرقت جلد بطلتها "زيبا" وشاركتنا بصراعها الداخلي الخاص، وأشعرتنا بشللها الروحي والجسدي في آنٍ معا في محاولة جادة للإشارة الصريحة بأن هذه الشخصية النسائية، التي هي أنموذج لغالبية النساء في إيران، هي شخصية مختنقة ومقموعة ومغترِبة داخل المجتمع الإيراني المعاصر. ولدت خوشنودي عام 1977 بطهران، نشأن وترعرت في تكساس، وتقيم حالياً في باريس. أنجزت عدداً من الأفلام الوثائقية والقصيرة نذكر منها "ذاكرة"، "أناناس"، "عبور" و "ناس في الظلال".