الأصدقاء يستعيدون يومياتهم عن أشرس قصف أمريكي عشناه عام 1991. وأنا أتذكر غرفتي في الطابق العلوي بالمنزل وغلافا لمجلة "ألف باء" بصورة لنجمة السينما صوفيا لورين. وليس استذكار القصف صناعة كراهية لأمريكا بل محاولة استذكار لوحشة الدكتاتورية التي مثلها صدام حسين واستتبعت واحدا من أشرس عمليات القتل الأمريكي نهاية القرن العشرين.
أسرد هنا حكاية مشتركة مع الملايين لأحاول أن نتذكر معا ذلك الرجل القوي صدام، ونحاسب بعض أمنياتنا اليوم بالحصول على صدام حسين آخر يضع حدا للفوضى العراقية. استذكار 1991 هو محاولة تساؤل عن الرجل القوي لكي نعيد تعريفه.
صباح ١٦ كانون الثاني( يناير) من ذلك العام، وكنت طالبا في المتوسطة، خرجت مع ملايين العراقيين للمشاركة في تظاهرات إجبارية تدعم صدام حسين الذي انتهك الكويت وتمرد على القواعد الدولية شرقا وغربا. وفي طريق العودة إلى المنزل تناولنا سندويش فلافل في العشار، ومازلت أتذكر حجم الرغيف وشكل الفلافل التي لم تنضج مؤشرا على نقص فادح في الطحين والزيت. لقد بدأ الحصار أو العقوبات يدخلان مرحلة الإيلام.
ليل ذلك اليوم شاهدت آخر فيلم سهرة وصعدت إلى غرفتي في الطابق العلوي أتصفح آخر عدد من مجلة "ألف باء" وحوارا مع صوفيا لورين، بينما نزلت كل العائلة للنوم أو التحصن في الطابق الأرضي حذرا من بدء الحرب. أنا الذي أخالف القوانين دوما بقيت وحدي في الأعلى حتى سمعنا صوت سرب الطائرات الأمريكي الأول. صاح الوالد: تعال هنا لقد بدأت اللعنة. لقد أدركنا أن قيامة البلد بدأت لكننا لم نتصور أن البلاء سيتواصل حتى ٢٠١٣ ليثبت لنا كيف أن حماقة رجل واحد يمكن أن تحطم عدة أجيال وتصيب كل الزعماء بعدوى الحمق والتخبط.
الرجل القوي الأحمق الذي خرق كل القواعد مستندا إلى قوته، دخل الكويت بوحشية، فردت عليه الدنيا بوحشية أيضا. كان ناجحا في توفير الأمن الداخلي ، لكن قوته القمعية المزيفة في الداخل حولته إلى متسرع متغطرس في الخارج، جرى تأديبه عبر تأديبنا نحن. أحلى شباب العراق جرى دفنهم في صحراء حفر الباطن، وظل الحمقى يقولون إن من حق الرجل القوي أن ينفذ قراراته ويجب على الشعب أن يموت قربانا لطموحات زعيم أحمق بقوة مزيفة.
أشعر بأن يوم القيامة لم ينته بعد، وأنا أسمع الجهلة والحمقى يصرخون في وجه جهلة وحمقى، ويهددون بإحراقنا للمرة الألف. مازلت أسمع صراخ الحمقى ذوي القوة المزيفة وأسترجع جلستي على السرير الخشبي في الغرفة العلوية محدقا بصورة صوفيا لورين وبهرجة العالم المتقدم حولها، وهو عالم متقدم تقصفنا صواريخه، بينما حولي أحلى بساتين نخيل البصرة، يتصاعد الدخان من جذوعها الوقورة، ومن خشب السفن القديمة التي ضربتها صواريخ ٣٠ دولة صبيحة يوم شباطي عام ٩١، وكادت تصرعني حين تشاغلت بملء وعاء بمياه شط العرب، حين انقطعت الإسالة عن المنزل.مازلت ونحن في ٢٠١٣ في غرفتي العلوية أحدق بصورة صوفيا لورين وكل بهرجة العالم المتقدم، وأستنشق رائحة عراق محروق قامت قيامته ولم تقعد. وبعض عائلتي يرددون: لا بد للعراق من رجل قوي يقضي على الفوضى.
أعتزل في الغرفة العلوية وأتخيل الرجل القوي في ٢٠١٣ مدفوعا بتصفيق عراقيين طيبين لكنهم لم يتعلموا درس التاريخ القريب، وهو يحلم بالتحول إلى سلطان يضبط الأمن الداخلي ويقوم بتصفية كل معارضيه. وحين يصبح كل شيء بيده سيقوم باعتقال الصحفيين الأجانب ويطرد كل سفير لا يعجبه وكل مستثمر غاضه، ليبدأ بخرق قواعد الشرق والغرب والعودة بالبلاد إلى محور الشرور، كي نتعرض لقصف آخر واحتلالات أخرى.
شعبنا جرب حكم الأقوياء على الطريقة الشرقية. وقسم كبير منه لم يستوعب القوة بمفهوم العالم الحديث. قوة التعدد السياسي وشرعية البرلمان. قوة القانون والقضاء المستقل. قوة الانفتاح على العالم وحل المشاكل بالتحالف مع الدنيا المتمدنة. قوة التخلي عن الشعارات الحمقاء والاستماع لنصائح الحكماء.
جزء مهم من شعبنا نسي ذكريات الهزيمة مع التعريف الشرقي للرجل القوي، وصار يحن إلى عودة الشرقي القوي، لأنه شعب مسكين تعب من فوضى ما بعد صدام حسين، وهذا حقه. والأمر يحمل عقلاء السياسة مسؤولية أن يبرهنوا للشعب أن هناك خيارا ثالثا غير الفوضى وغير نموذج صدام حسين، هو خيار قوة الدولة التعددية الحديثة بمعايير التمدن المعاصر.
إن تصحيح أحلام شعبنا هو الطريق الوحيد لإنزال أمثالي من الغرفة العلوية، نحو عالم جديد يعيش فيه أبناؤنا دون أن يضطروا لاستنشاق رائحة نخيل يحترق وجثث تختلط بأخشاب سفن وقورة مهيبة تحترق.
افهموا حرائق الماضي كي نبدأ بتعلم إطفائها. لا تطفئوا حريق صدام حسين بحريق أسوأ منه. تعالوا نبدأ بتصحيح أحلامنا كي لا ندخل في مواجهة خاسرة أخرى مع "عالم صوفيا لورين" المبهرج والقاسي والممسك بمصائر القرن الحادي والعشرين والمستعد لقصفنا بكل أنواع الصواريخ.
جميع التعليقات 1
المدقق
عنجوكي وستبقى عنجوكي