لا يسمو ولا يذل شيء في موسم الحرب أكثر من الحب. إنه يصير أبعد من السماء. والسماء ذاتها تختفي عندما تدور الحرب. فمن يتطلع الى أعلى يومذاك؟ بل من يرى أصلا؟ لكن رغم ذلك، ولأن الحياة لا يمكن أن تموت، ولا أن تفقد قدرتها تماما على التعبير عن نفسها حتى قي أسوأ الظروف، يظل هناك دائما قلب ما يتفتح، وحب ما يتوهج، ويرتفع، ويبلغ السماء. وبمثل ذلك يسمو الحب، أو ما بقي منه، حتى في زمن الكره، زمن الحرب.
ولعل هذا هو معنى القديس فالنتاين. فحكايته تقول ان إمبراطورا منع جنوده من الزواج في أحدى المعارك. والمعركة، بأمر الامبراطور أو دونه، مقصلة المحبة. لكن لأن غريزة الحب أقوى من غريزة القتل، اجتاحت الأولى الثانية فلم يتحمل الجنود. الذين مهنتهم القتل وخلال ممارستهم المهنة لم يتحملوا الصوم عن الحب. وفالنتاين حلَّ أزمة الكثير منهم بتزويجهم سرا. وذات الغريزة هزمت رهبنة فالنتاين، عندما انكشف أمره أمام السلطات وسُجن، فأحبَّ هو نفسه ابنة سجانه وتزوجها. فلا الحرب ولا الرهبنة تمكنت من هزيمة أم الغرائز.
إن الحرب أعلى مراحل الكره. والكره يدمِّر والحب يعمِّر. الحرب ترفع قيمة القتل وتذل قيمة الحب. تحوِّل الحب الى عمل من أعمال المقاومة السرية، وعمل فردي عادة، لأن الحب أصلا شعور خاص يعيش في أعماق شخص. وهو يحيا عند كل انسان بطريقة مختلفة عن الآخر. انه سمة من السمات الصانعة لفردية الشخص. بينما الحرب أصلا مشروع جماعي جهنمي لسحق الفردية، وتذويب كل ما يجعل من الفرد شخصية مستقلة ومختلفة عن كل فرد. إنه فرن يصهر الأفراد في جماعة واحدة مسلحة أو معبأة.
ولعل الحرب ليست نقيضة السلام بمقدار ما هي نقيضة الحب. ذلك ان السلام هو مهد الحب، شرط وجوده وكماله. وبغياب الأمان، وفي الأزمان المعتمة، غالبا ما يُحاصر القلب البشري ويَكسل وينام، وتمنعه عن اليقظة والتفتح والإنطلاق قيود غامضة لكن حقيقية وقوية مثل قضبان السجن. وهذا نوع من أنواع "الموت"، ولعله أخطر ما يصيب البشر في الحياة: تبلد أو فقدان الإحساس الذي هو حصيلة كل تراجع أو ضمور في قيمة الحب، ونتيجة كل منع لممارسة أكثر الأفعال براءة. ولكم ستكون حياتنا مختلفة وبهية لو ان هذه البراءة طليقة وتلك القيمة سائدة!
ان قيمة الحياة البشرية لا يمكن أن تُعرف وتُدرك، وتتحول الى سلوك وممارسة، الا من خلال الحب. فأن تُحِبْ لا يعني أن تلعب وتستمتع وتسعد فحسب ولكن أيضا أن تحس وتعرف وتقدِّر وتعطي وتحسِب وتحاسَب. انه اللذة والمسؤولية معا. باللذة دون المسؤولية يمكن لك انجاب 5 و10 من الأولاد. لكن اذا أحببت حقا وشعرت بالمسؤولية فعلا، ستكتفي بانجاب اثنين أو ثلاثة بالكثير،لأن الانسان أغلى مخلوق، ولأنه يحتاج الى الكثير من الحب والرعاية والتربية والتعليم والمال، وهذه أهم "صناعة" وأكثرها كلفة روحيا وماديا. ومن يحب يُغلي ولا يسترخص الإنجاب كالقطط.
ولعل شريكة عمري بين فصيلة البارعين في هذه "الصناعة". فقد شمرت عن ساعديها وتفرغت لـ "زيد" و"رباب" حتى أبدعت، ولكن ليس على حسابي! فلم تنسني قط، وحافظت على التوازن، مكذبةً بذلك شائعة أن المرأة العراقية تنتهي حياتها بالزواج. أي تمسك البيت وتقبض على غريزة الأمومة وتترك الأنوثة وتنعى فالنتاين وسنينه. لا أبدا. فما هكذا يقول عيد الحب اطلاقا! ولكن حتى اذا فعلت نساؤنا ذلك فالمسؤولية تقع علينا نحن رجال العراق. ويا إلهي ما أكثر ذنوبنا وما أشد غلاظتنا! فكم أمانةً خُنَّا وكم حربا أشعلنا وكم فتنة أيقظنا وكم مطرحا للحب ابقينا!
سامحينا أم زيد. وكل فالنتاين وأنت بخير.
جميع التعليقات 1
كاطع جواد
سلمت يا استاذ بهذه الكلمات الرقيقة وذات المعنى الإنساني الجميل خاصة عندماربطت بين الحب والمسؤولية فالشهيد فلنتاين عندما ضحى بحياته من اجل ان يسعد الاخرين بحبهم هو مثال إنساني راقي ودائما نرى في الحب والمحبة تبني الشعوب حياتها وبالكراهية تهدم وتزول كل ما