اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > المباني التأريخية سجلات لذاكرة المجتمع

المباني التأريخية سجلات لذاكرة المجتمع

نشر في: 15 فبراير, 2013: 08:00 م

لكل شعب ذاكرته التي هي حصيلة تأريخه والأحداث المرافقة له بحلوها ومرّها، تلك الذاكرة التي تساهم في تشكيل شخصية المجتمع وفي صياغة وبلورة حاضره ومستقبله. ولحفظ هذه الذاكرة وتسجيلها ونقلها وسائل شتى كالأدب بكل مظاهره والفنون بأشكالها المختلفة وكذلك العلو

لكل شعب ذاكرته التي هي حصيلة تأريخه والأحداث المرافقة له بحلوها ومرّها، تلك الذاكرة التي تساهم في تشكيل شخصية المجتمع وفي صياغة وبلورة حاضره ومستقبله. ولحفظ هذه الذاكرة وتسجيلها ونقلها وسائل شتى كالأدب بكل مظاهره والفنون بأشكالها المختلفة وكذلك العلوم، بل إن سائر فعاليات المجتمع هي وسائل لخزن ذاكرته بشكل ما. والعمارة باعتبارها منتجا ً تمتزج فيه الفنون والعلوم بشكل لا يماثلها فيه منتج آخر، مما دعا فلاسفة الإغريق إلى وصفها بأنها أم الفنون فإنها وسيلة فاعلة لتسجيل الذاكرة بشكل واضح وصريح وثابت وطويل الأمد ،فهناك من آثار العمارة ما أنشئ بأقل المواد مقاومة، كالطين لكنها تقف شاهدة لمئات أو لآلاف الأعوام ،كزقورة عقرقوف وملوية سامراء والمدرسة المستنصرية وغيرها. والعمارة هي شواهد عصورها ورسل صنّاعها إلى المجتمعات اللاحقة – مازالت الأبحاث على قدم وساق لقراءة الرسائل التي تبعثها أهرامات مصر ومازال هناك الكثير منها لم يُقرأ بعد-.

قبل أيام تمت إثارة موضوع التعامل مع واحد من أهم هذه الشواهد التأريخية الذي يقع في أحد أهم محلات مركز بغداد ويعود إلى فترة زمنية لا تقل أهمية عن الفترات السابقة واللاحقة لها مع قصر عمر المبنى النسبي قياسا ً إلى التأريخ الطويل لهذه المدينة وهذا البلد، وقد شهد المبنى أحداثا ً جمة ً بحكم وظائفه وموقعه وارتباطه بما يجاوره، وهو مبنى الكتّاب العدول أو المتصرفية الواقع في السراي في حي جديد حسن باشا قريبا ً من القشلة والسراي وشارع المتنبي وجامع السراي وعلى مسافات قريبة من ساحة الميدان وباب المعظم وشارع الرشيد والمدرسة المستنصرية وجسر الشهداء والمواقع التي شغلتها الحكومة أيام الحكم العثماني، ووزارة المعارف ووزارة الداخلية والدفاع في فترات لاحقة، فأي زخم تأريخي يماثل هذا بكل أوجهه السياسية والثقافية والدينية والإدارية والتجارية وغيرها؟

لم يتبق من المبنى سوى واجهته، ومع شدة الخراب والدمار الذي لحقها فلا يخفى على المرء إدراك مدى جماليتها ومهارة المعمار في خلق واجهة متوازنة ذات إيقاع آسر في كل تفاصيلها، غير أن أهمية المبنى – أو الأصح ما تبقى منه – لا تكمن في جماليته فقط ولكن في كونه شاهدا ً وسجلا ً لفترة تأريخية مليئة بالمتغيرات التي ما زالت تحفر آثارها في حياتنا وستستمر في حياة الأجيال القادمة، وفي ما يحمله المبنى من رسائل ستظل ذات قيمة لقارئها، وأنه جزء من ذاكرة ثرية عزيزة لدى حامليها.

لا أدري أن جاز القول هنا أن من حسن حظ المبنى أن ظل وجهه (واجهته) باق ٍ فلطالما كانت واجهة المبنى هي الرسالة الابلغ له وهي الوجه الذي يتصفحه المجتمع من خلاله ويعلن المبنى من خلاله مايود أعلانه – خصوصا ً في الانماط المعمارية التي سبقت العمارة الحديثة على أنها هي أيضا ً لم تستطع التخلص تماما ً من هذه اللغة التعبيرية أي في تركيز مفرداتها في الواجهة بشكل خاص - . والان وقد أندثر المبنى وظلت واجهته يتيمة ً لكنها شاخصة ً بكل جلالها كأنها تنتظر ما قد يحيق بها.

لقد تضمن مقال أستاذنا الدكتور خالد السلطاني "عمارة تلد عمارة" في العدد (2703) بتأريخ 18/1/2013 مقترحات وأفكار حول طريقة الحفاظ على بقايا هذا المبنى من الواضح أنها بنيت على فكر سليم وعقلية متفتحة بعيدة عن التطرف كما أنها تنم عن حرص وخوف لباحث يعرف قيمة آثار بلده ويعيشها ويخشى عليها من طوفان الهدم والازالة الذي يكتسح عمل معظم دوائر الدولة في السنوات الاخيرة، تلك القرارات التي دائما ً ما تجر ورائها ندم لفقدان شواهد تأريخية لا تقدر بثمن.

يدرك المعماري والمخطط الحضري أن التعامل مع المباني التأريخية وخاصة في المدن العريقة كبغداد في داخل نسيجها المكتظ هو من أصعب وأدق الاعمال التي توكل اليه وهي أعمال تحتاج الى روية ودراية وتريث ودراسات مسبقة والى مشورات من أناس في تخصصات عدة، كما أنها تحتاج الى حس تأريخي وعشق لذاكرة الوطن.

وبالاجمال فأن هذه الاعمال تقسم الى ثلاث، وذلك تبعا ً لعوامل عديدة مثل قدم المبنى ومدى متانته وتوفر التقنيات اللازمة للصيانة وموقعه التأريخي والجغرافي في المدينة والوظائف التي يمكن ألحاقها به وعوامل عديدة أخرى.

1- أعمال الحفاظ للمباني التأريخية ( Conservation, Preservation ) ويتم في هذا النوع من الاعمال الابقاء على المبنى أو جزء منه، دون المساس به وذلك للقيمة العليا التي يمتلكها والحساسية المفرطة لتكويناته ولخشية ضياع أو أخفاء معالم المبنى ( والرسائل التي يحملها) وعدم أمكانية منحه وظائف جديدة وأمور كثيرة أخرى، وهذا هو الاختيار الامثل لآثار مثل زقورة عقرقوف ودار الامارة في الكوفة، ولعل هذا يوضح الخطأ الفادح الذي أرتكبته دكتاتورية معتدة بنفسها في أعمال ترميم آثار بابل.

2- أعمال الترميم ( Restoration ) حين يمكن أعادة بعض أجزاء المبنى التأريخي دون المساس بهويته لغرض منحه حياة جديدة وصيانتة من الاضرار التي لحقت به أو أمكانية توظيفه من جديد وما الى ذلك على أن يظل أدراك وتمييز الاصل عن الاضافات سهلا ً ممكنا ً للرائي ولمستخدم المبنى.

والامثلة على ذلك كثيرة كأعمال الترميم الجارية في  الاضرحة المقدسة في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء، ومواقع أخرى كثيرة كخان مرجان والمدرسة المستنصرية والقصر العباسي وجامعي سامراء وابو دلف والاخيضر.

3- أعادة البناء ( Reconstruction ) يحدث أحيانا ً أن يندثر مبنى ما لاسباب طبيعية أو أثر أعمال تخريب متعمدة مع أمتلاكه قوة تعبيرية هائلة ودلالات تأريخية مستمرة في التأثير مما لايسمح برفعه من ذاكرة المجتمع الذي يصر على أبقاءه كشاهد تأريخي فيعمد الى أعادة بنائه، وهي حالات ليست بكثيرة مقارنة ً بأعمال الترميم. من الامثلة على ذلك أعادة بناء دار الامام علي (ع) في الكوفة.

وبالعودة الى محور الحديث هنا وهو مبنى كتّاب العدول في السراي وقد أندثر المبنى وظلت واحهته شاخصة وسط حشد من الابنية التأريخية المؤهلة للبقاء كشواهد في نسيج حضري يعبق التأريخ في كل زاوية فيه وفي كل حجر من أحجار بنائه، فأي الحالات هي أصدق للتعامل مع هذا المبنى في هذا الموقع؟

بالتأكيد فأن الاجابة على هذا تحتاج الى بحث أعمق ومعرفة أدق ومشورة أوسع، ولكن من الممكن وضع خطوط عريضة وقواعد عامة للعمل والتعامل مع حالة كهذه وقد أشار الدكتور خالد في مقاله اليها، منها:

- أستبعاد فكرة وقرار الهدم والازالة والتي لا تفضي الا الى طمس معلم سيكون من المستحيل أعادته وخصوصا ً مع الامكانات التقنية الضعيفة التي يمتلكها العاملون في مجال الترميم في ظرفنا الحالي.

- التعامل مع المبنى بحساسية شديدة وعدم الاسراع بقرارات تصميمية أو حتى ترميمية قد تضيف وتغير من هوية المبنى ومن هوية الموقع بأكمله دون حسابات منطقية مسبقة للاحتمالات المتوقعة. تشير بعض الاخبار حول ترميم المبنى الى النية ببناء مرفقات لبقايا المبنى قد تحدث تغييرا ً كبيرا ً يصعب العودة معها الى قرار صحيح. هناك أخبار حول تحويل المبنى الى قصر للثقافة " هناك نية لابقاء واجهة البناية للحفاظ على طابعها التراثي واعادة بناءها بطريقة حديثة وبتصميم معاصر وانشاء قبة كبيرة داخل المبنى مع طابقين وسرداب تحت الارض وعمله لخزن المواد التي ستكون في البناية ."  الخبر على موقع محافظة بغداد بتأريخ 12 تموز 2012.

- محاولة الابقاء على الواجهة قانونيا ً للحفاظ عليها وعدم المساس بها، وتقنيا ً من خلال أسنادها لمنعها من السقوط، وايقاف الاسباب الاخرى التي قد تحدث أضرار ً بالغة للمبنى والتي قد تحوله الى موقع مهجور ومكب للنفايات كما يحصل حاليا ً.

- توثيق المتبقي من المبنى بدقة ومحاولة جمع المعلومات التي تخص المبنى بوضعه السابق والحالي. سيشكل هذا التوثيق قاعدة المعلومات للعمل المستقبلي وللمقترحات التي قد تقدم من خلال المسابقة المعمارية التي يقترحها الدكتور خالد السلطاني والتي من المحتمل أن تؤدي الى جمع كم كبير من الافكار بمديات أوسع مما تفكر به الدوائر الرسمية المسؤولة عن الموقع.

وأذا كانت المباني التأريخية شواهد عصورها وسجلات ذاكرة المجتمع، فأن ازالة بعضها هو أبعاد لهذه الشواهد و ألغاء للذاكرة، وهل من مجتمع لايعتز بذاكرته؟ أم أن هناك من يود ان يكون فاقدا ً للذاكرة؟

مهندس عمارة وتخطيط حضري

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

باليت 42 بدايات عام جديد

السُّخرية السريالية ودلالة الأيقون في أعمال الفنان مؤيد محسن

المصرف الزراعي في السنك: بزوغ الحداثة المعمارية العراقية

عمارة تلد مسابقة!

دار هديب الحاج حمود.. السكن رمزاً للانتماء

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram