أكثر العراقيين يعلق آماله على المجهول لتحقيق هدف ما ، وفي بعض الأحيان ،يخفي سره لكي لا يصاب بعين الحسد ، وفي داخله شكوك من إحباط أمنيته ، بفعل إجراءات روتينية مستعارة من زمن الاحتلال العثماني ، وكتابنا وكتابكم ، أو نتيجة الضوابط الصارمة المعتمدة في انجاز معاملة ما ، والعراقي المعروف بأنه يتمتع بروح الصبر والمصابرة ، لم يفكر بالتراجع ويظل يواصل المسيرة لحين إنجاز المعاملة ، برغم كل العقبات والعراقيل و"طيحان الحظ" في مراجعة الدوائر الرسمية ، وإصراره يستند إلى قناعته بأفكار" ثورية " قرأها أو تبناها ، شجعته على خوض المعترك النضالي للحصول على بدل ضائع أو تالف لهوية الأحوال المدنية أو شهادة الجنسية تلك الوثيقة الخطيرة جدا في الحياة العراقية .
العراقيون المقيمون في الخارج قدموا طلبات لإعادتهم إلى وظائفهم طبقا لإجراءات إعادة المفصولين السياسيين ، ومنهم ترك الوظيفة مطلع العام 1979 والتحق بكردستان لينضم إلى حركة مسلحة معارضة للنظام ، وانتهى بهم المطاف لاجئين في دولة أوروبية ، منذ أكثر من سنتين وأصحاب الطلب لن يعودوا لوظائفهم ، لأن وزاراتهم التي كانوا ينتسبون إليها حولت الطلبات إلى هيئة المساءلة والعدالة للتأكد من أنهم غير مشمولين بإجراءات اجتثاث حزب البعث المحظور ، وهذه نكتة الموسم ، وهي ليست خيالية أو من ابتكار احد المختصين بتحويل الكوميديا السوداء إلى مهازل لغرض التخفيف من الصدمة ، وجعل المتلقي يتقبلها من دون التعرض إلى ارتفاع بضغط الدم ، وهذا النوع من المهازل لا يحصل في أية دولة رسخت ووطدت مؤسساتها واستخدمت التكنولوجيا الحديثة في انجاز معاملات مواطنيها بدءا من إصدار بيان الولادة ، ووثيقة التأمين الصحي ، وانتهاء بتاريخ الوفاة ،وكل هذه الأمور تجري في دولة المؤسسات .
في المنطقة العربية توجد دولة مؤسسات وكذلك "دولمة" مؤسسات والفرق شاسع وكبير، فالأولى تشهد استقرارا سياسيا ، واقتصاديا ويتمتع شعبها بدخل مرتفع ، والثانية تحاكي السلحفاة في مسيرها والبعير في التخلص من إدراره ، وهي تمتلك الصوت الصاخب الداعي إلى تحقيق المشروع القومي النهضوي ، وانطلاقا من إيمانها بهذا المشروع طالما تبرعت للأشقاء والجيران بملايين الدولارات فيما تركت أعدادا كبيرة من شعبها تعيش في العشوائيات ، ويبحث عن طعامه في النفايات .
دولة المؤسسات حلم العراقيين وأمنيتهم ، تحدث عنها الساسة والمسؤولون والبرامج الانتخابية السابقة ، والجميع أعلن الحرب ضد الروتين لكونه من مخلفات النظام السابق ، وعلى حب الله ورسوله وآل بيته عليهم السلام ، امتلأت مقار المباني الحكومية والدوائر الرسمية بحكم وأقوال وحتى أدعية ، تؤكد الوقوف أمام الحق لدحر الباطل إلى الأبد ، وبعبارة أدق إن صح التعبير التوجه نحو إرساء وترسيخ دولة المؤسسات، ولكن واقع الحال يكشف عن "دولمة" مؤسسات أعدها أمهر الطباخين ، المستعدين دوما لتقديم أشهى المأكولات للزبائن في مطاعم المنطقة الخضراء ، وجيب تشريب زند لعمك المستشار .