لا أحب لساني لأنه "انعوج". لم يعد قابضا على اللهجة التي كان يتحدث بها قبل الخروج من العراق، والتغرب نحو ربع قرن. غادره ذلك السحر بعد أن ركب على اللسان لون من العامية المفصَّحة. لم تكن في اليد حيلة. ولعنة الله على كل "ثقافة" تعوج اللسان، وعلى كل "غربة" تأكل من أصالة الإنسان.
وكنت قد "قبضت" على شيء من جمال اللهجة الجنوبية وأنا لم أزل في البلد، أيام الجندية. هناك، وفي "منفى" الجنود المظلومين في احدى مناطق "الشمال" البعيد، البعيد جدا يومذاك، انعقدت عشرة طيبة بيني وبين زميلي "رعد" الذي ينحدر من الرميثة. وكان الإنجذاب الى لهجته أحد وجوه تلك العشرة. فقد تسللت منها الى لساني بعض المفردات. وكنت أعض عليها كما لو كانت ثمرات لذيذة، وأتذوقها، حتى تنبه بعض من أهلي واصدقائي الى هذا التغير اللساني البسيط. ثم دار الزمن وطوى معه صفحة تلك المفردات دون القضاء على ذكرى نكهتها.
وحين ذهبت الى "العمارة" قبل أيام، كان البحث عن تلك النكهة ومادتها جزءا من "المباحث" التي شغلتني كزائر. وفي مدينة تعج بذكرى الحضارات المبادة والآلام الكثيرة، قد لا تعرف ما تريد أن ترى وتحس وتعرف، فتتزاحم عليك المشاعر، وتختلط لديك الرغبات. ولكن رغم هذا "الإزدحام" كنت واثقا من رغبتي بالإستماع الى لهجة الجنوب على ألسنة أهل الجنوب.
وجلست استمع الى أول المتحدثين الذين التقيت بهم من أهل العمارة. ودرت افتش في لسانه يمينا وشمالا عن تلك اللهجة فلم أقع على أثر لها. وهو لم يغادر البلاد لكنه مع ذلك يتكلم بنفس عاميتي المفصحة أو القريبة من الفصحى. وتكرر الموقف ذاته مع آخرين. وكانوا جميعا متعلمين من حملة الشهادات. هكذا بدا لي ان لسان الجميع قد انعوج مثل لساني.
هل "التعليم" هو سبب القضاء على اللهجات؟
يخيل الي أن الثقافة الصحية والتعليم الصحيح يفعلان باللهجات شيئا ما مختلفا، تحسينا أو تطويرا ما، وليس القضاء عليها. فهذا ما صنعاه غالبا بلهجات البلدان المتقدمة. أو في بلدان مثل مصر ولبنان. الصديق العزيز الصحفي قيس حسن، الذي كان بين رفاق السفرة الى العمارة، ذكر سببا من أسباب القضاء على العاميات الجنوبية بين المتعلمين، وهو إن مسلسلات وتمثيليات تفزيونية عديدة لعبت دورا في هذه "الإبادة الجماعية"، من خلال عروضها التنكيتية والتصغيرية لتلك اللهجات.
لكن هذا السبب قد يكون هو نفسه نتيجة نظرة دونية سادت تاريخيا وجغرافيا بهذا المقدار أو ذاك تجاه لهجات الجنوب وربما أهله. فإلى العصر الجاهلي يعود المثل القائل "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". وثمة نظرة من النوع نفسه توسع مجالها من المعدان الى شرائح جنوبية أوسع، وهي التي تختزلها كلمة "شروقي". والنظرتان لا يمكن تبرئتهما من هذا القدر أو ذاك من سموم العنصرية.
والعنصرية، وهي بالتعريف كراهية "المختلف"، قد تعلم ضحاياها الإعتداد بالنفس، بما في ذلك العادات والتقاليد وضمنها اللهجة، وقد تدفعهم الى سلوك معاكس يؤدي بهم الى نوع من تبني نظرة العنصري نفسه، والاستجابة لها في السلوك وطرق التعبير والكلام.
على أن ما تراه على لسان أهل مدينة العمارة يقل شيئا فشيئا في أقضيتها ونواحيها ثم ينعدم تقريبا في قراها، ضعيفة الثقافة والتعليم، حيث تجد اللهجة الأصلية صافية. هنا وجدت ضالتي. أخيرا هذه هي رائحة الأهل. انها أكثر من ذلك. إنها كثافة طريقة حياة عريقة. لكن اليد تبقى على القلب، خشيةً من زحف تعليم يعوج اللسان وثقافة تأكل أصالة الإنسان.
لهجة العمارة
[post-views]
نشر في: 17 فبراير, 2013: 08:00 م
جميع التعليقات 2
كاطع جواد
اللهجات جزء من الموروث الشعبي والمفردة هي صورة مصغرة لفترة زمنية معينة او لطريقة معيشة تلك الجماعة وأسلوب حياتهم ..انا مثلك يا استاذ من أعماق أهورا الناصرية ومن سوق الشيوخ بالذات فكلما أحسست بالضيق وتوقفت أنفاسي من غرائب الكلام ومفرداته الباردة اذهب ال
شروكي
لماذا تبحث عن اللهجة الجنوبية في العمارة , انها قريبة منك غزت بغداد منذ الخمسينات , في الشعر الشعبي والغناء والتمثيل اصبحت لهجة المسيطرة على الشارع البغدادي , اصبحت كلمة جا يرددها البغداي ان غنى او نظم شعرا, الا يكفيك هذا.