أُسقط في يد العقيد الجديد (لا يعرف أحدٌ كيف صار عقيداً) وهو يخطط لقيادة كتيبة الدبابات لقلب نظام الحكم السياسي في البلاد.
لم يعد الأمر ببساطة تلك الأيام التي تتوجه فيها دبابة عسكرية لاحتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون كي يستقيم الأمر لحفنة الضباط الانقلابيين.
بالمقابل، لم يكن اليسار العراقي بقادر على إدارة الصراع بما يحقق له حضوره المؤثر، الضاغط، على المؤسسة العسكرية القوية التي تقود كل شيء في السلطة وخارج السلطة، منذ أول انقلاب عسكري بقيادة الانقلابي الرائد بكر صدقي.
كان قادة اليسار تلاميذ مخلصين لمبادئ سياسية غريبة على الواقع العراقي، رغم الشعبية الواسعة التي قوبلت بها أفكارهم و "خططهم" لبناء دولة البروليتاريا الثورية، لكنك إن سألت مواطناً يسارياً متحمساً، في الريف أو المدينة، حتى العاصمة، عما يعنيه اليسار، الشيوعية، فائض القيمة، التراكم الكمي، الله، الدين، لن يعينك بفهم الحد الأدنى لالتباسات المفاهيم والوقائع، في الكتب والشارع، لتصبح فكرة مثل "الاشتراكية" يوتوبيا دينية يؤمن بها كثيرون، ربما الملايين، وكأن الإيمان الديني يكفي لتكون الفكرة المقدسة قابلة للتطبيق وتحقيق الظفر النهائي على دولة مستغلي الكادحين.
"الفكرة المقدسة" التي سقطت، تطبيقاً، في مسقط رأسها، لم تزل مغرية للكثيرين، حتى لي، شخصياً.
رغم أن "الفكرة" التي جعلناها، نحن، مقدسة لم يقل روادها وكتاب مانفيستو البيان الشهير، ماركس وأنغلز، بأنها مقدسة، لأسباب عدة، منها: إن الناس تدافع، عادة، عما تؤمن به بضراوة ولا تتنازل، بسهولة، عن قناعات كفلتها أحلام عريضة ممتعة وجذابة، رغم أن تطبيقاتها الأصلية كانت مثار جدل على مستوى العالم بأسره، ومثال "الشيوعية الأوروبية" ماثل للعيان والآذان، عندما صار الشيوعيون الأوربيون أعداء خطرين لشيوعية موسكو الأم، وهم "تحريفيون" حسب التهمة الرسمية السوفييتية لهم لأنهم فكروا خارج معسكر الدولة البوليسية.
بعد 9 نيسان (أبريل) 2003 ظهر في أوراق السياسة والثقافة مفهوم "المجتمع المدني" الذي لم يكن ليظهر طيلة تاريخ العراق الحديث حتى ذاك التاريخ.
ظهر المجتمع العراقي الجديد من تحت الأنقاض مثقلاً بإرث دموي، احتباسي، متوتر، امتد عقوداً طويلة منذ تأسيس الدولة العراقية.
هذا المجتمع (الجديد) هو تجمع شعبي هائل من المعوقين والمشوهين، بدنياً وسيكولوجياً، بفعل سنوات القمع البوليسي، والحروب المجنونة، شديد الضراوة، ما سلب الناس قدراتهم الشخصية، حتى البسيطة، على التأمل، وهم الذين بذلوا أقصى طاقاتهم على التحمل، وما الخطاب السياسي الذي يقصم ظهور العراقيين، اليوم، سوى صورة انعكاسية لسنوات التعتيم والجهل وغسيل الأدمغة، فصار المجتمع الجديد فرصة للفساد والإثراء غير المشروع والتخبط السياسي الفاقع واللوذ بهويات فرعية متصارعة بدلاً من أن تكون متفاعلة لوضع برنامج مدني حقيقي وصيغة لدولة رحيمة ترعى الجميع بلا تمييز.
إن مجتمعاً، خرج برمته من القبور الجماعية والمصحات العقلية، غير العقلية.. مجتمع من الجحافل البشرية المشوهة، المرتبكة، المتوترة، لا يمكن أن يشكل البدائل المدنية، مؤسسات وهيئات وتجمعات للمجتمع المدني، بعقول غير مدنية، وإرادات مكبوتة تحتاج إلى فترات نقاهة، تطول أو تقصر، لكي يتفكر الإنسان، فرداً ثم جماعة، بمسؤوليته الأخلاقية إزاء نفسه والآخر، معاً، في وسط اجتماعي ارتكاسي غير قابل، في الوقت الحاضر على الأقل، على إنتاج صيغ إيجابية جديدة للعيش والتشارك والنشاط التطوعي الفعال، حتى بات كل ما يخرج من هذا المجتمع هو صورته في المرآة، وهي مرآة مكسورة ومشوشة وضبابية.
لا يبني مؤسسات المجتمع المدني أشخاص، مهما كانت درجة إخلاصهم، ما يزالون أسرى ذاكرة العنف والخنادق المتقابلة والأيديولوجيات المغلقة، والأجساد المهدمة والآذان المقطوعة والأطراف التي أكلتها الحروب والفاشية التي لم تزل تعمل حتى اليوم.
مجتمع مدني!
[post-views]
نشر في: 18 فبراير, 2013: 08:00 م