الذاكرة هي التأريخ ومروياته. وحافظة للزمن الممكن الاحتفاظ به وهي هوية الفرد / ومكونة لذاتيته التي لن يكون إلا بها ومن خلالها . والذاكرة هي المرمى ، بمعنى الطفولة ، طفولة الكائن وبرية الرؤية والطفولة هي المرمى كما قال جان جنية ، كلنا نتجه نحوها ونذهب
الذاكرة هي التأريخ ومروياته. وحافظة للزمن الممكن الاحتفاظ به وهي هوية الفرد / ومكونة لذاتيته التي لن يكون إلا بها ومن خلالها . والذاكرة هي المرمى ، بمعنى الطفولة ، طفولة الكائن وبرية الرؤية والطفولة هي المرمى كما قال جان جنية ، كلنا نتجه نحوها ونذهب إليها ، بمعنى رؤية الحاضر بعيني الطفولة وابتكار رموزها الخاصة الدالة على مخيال لا يرى في الحياة غير الأسطورة والحلم واللا معقول ، تخييلات بالإمكان الإمساك بها وتدوينها ، فاللون لغة رمزية تمتلك طاقة الكتابة و؟؟؟ الجمال ، هذا هو الجمال الفني الخالص والنقي والأكثر تأشيراً من الجمال الطبيعي كما قال هيجل والفنان ستار درويش عرف كيفية الذهاب أسرع نحو الذاكرة / الطفولة ، لكنه لم ينس حاضره وحاضرنا ، لأنه استطاع توحيد / حنين ، الماضي / والحاضر وحتماً سيتجه الاثنان نحو مرمى جديد غير متحقق ، إنه المستقبل . الطفولة الشعرية المهووسة بالحركة وكأنها تعلن عن حلمها ومنتظرها الذي هو ملكها ، ليس بالذاكرة وإنما في الواقع هي طفولة متحدية للسواد ومعلنة عن احتجاجها الأكثر قسوة عن صراخنا المعطل وغير القادر على إيصال الرسالة التي نريد تبادلها مع آخر ، هو قريب وبعيد ، لكنه لا يرى ولا يسمع ، وتضعنا لوحات ستار درويش أمام استعادات ليس لذاكرته وليست لنا وإنما يمتد بعيداً وعميقاً في الذاكرة الثقافية والرمزية التي أسست الرموز المبكرة في الفن ، والذاكرة يقظة الكائن لحظة الاكتشاف ، وهي أيضاً صحوة الحاضر لمعاينة الماضي وإعادة قراءة الآن ارتباطاً به ومعه وكان الفنان ستار درويش يأخذنا لمرحلة حضارية مبكرة أشارت لها الانثربولوجي والمثيولوجيا وهي اللحظة التي تم تخليق الأسطورة فيها ، الأسطورة نتاج المخيال الجمعي وهي مهووسة المروي / الشفاهي حيث كانت السيادة للفم والأذن ، هذا ما اصطلحه العالم مارسيل دبيتيان وهو يتحدث عن مجال حضاري كانت السيادة فيه للحكي والشفاهي والوسيط المتلقي هو الأذن / المستمع . لقد وضعنا ستار درويش أمام احتفال كرنفالي ابتدعته الطفولة وحفزته الذاكرة الجمعية المعبر عنها من خلال ذاكرة / وعي / مخيال تعامل مع المحيط بدهشة ومعرفة الى نثريات وعبثيات كثيرة لا تشير الى فوضى الطفولة التي جعلت منها عمقاً للسطح التصويري ، بل تومئ الى فوضى الحياة المعبر عنها من خلال رموز عشوائية ذات ألوان مختلفة ومتناظرة وكأنها محمول لما هو موضوعي وحياتي طفولة مكتفية بلحظتها الراهنة وقد وضعت وراءها كل الخراب الذي تراه ، فهي لا تقوى على العيش بعيداً عن لا معقولها الممثل له تخيلاً بالرفض ، حتى لجأ الفنان الى تكسير انتظام السياق الممثل لجسد الطفلة وامتد فردهياً ومنشئياً وسط حياة مغبرة / وسوداء ، حياة لم تستطع تنظيم مدوناتها بحيث تبدو واضحة ومقروعة ، بل تبدّت رموزاً وخربشات عشوائية ، اعتباطية . تنطوي مع الرفض على براءة بكرية هي لحظة الأسطورة الأولى واللا معقول المعاش بالحاضر. رقصة كاد فيها الجسد الذوبان وهو يتلوى مبتهجاً ، مغتبطاً بحلم أدركته الطفولة واكتشفت ما هو وما يعنيه ، بمعنى الطفولة وحدها القادرة على معرفة الحلم ورؤيته ، فأحلام الطفولة قابلة للرؤية وتستجيب للبصر . لكن السؤال الأهم عن هذه الحروف والتكوينات المفككة والرموز التي شغلت مساحة واسعة من خلفية الطفولة الراقصة ؟ نعم هو المحيط والعالم الذي عرفته الذاكرة الآن واكتشفته الطفولة وأدركت بأن حلمها مفكك ، متناثر كما في اللوحات الخمس.
يومئ التكرار على الجدار صفة طقوسية وليست نصّية والطقوس والشعائر هي وحدها خاضعة للتكرار المستمر وتظل هكذا لأنها الآلية القادرة على تكريس الدين .
التكرار الظاهر في لوحات ستار درويش فردياً أو معبراً عن حاجة فردية ذاتية ، بل ينطوي على ذاكرة جمعية وإعلان عن بعد اجتماعي متنوع ، لكنه وكما يبدو في اللوحات تكرار غير خاضع للانتظام وإنما واقع تحت هيمنة التشتت والخلخلة تجاوباً لما هو حاصل في الحاضر الذي لا يغيب . فالطفولة حضور بريء ، بري ، يومئ للأصول البدئية ويعبر عنها ، طفولة متمركزة بالزمان والمكان عبر علاقتهما بالمحيط / الجدار ، السجل الأمين للذاكرة وحضورها المكرس للتبادل ، فالمدونات الموجودة ظاهراتياً بالعلاقة المكانية مشوشة ومرآتية للذاكرة البكرية ولابد علينا من التعامل مع المحيط بوصفه ميداناً للذاكرة التي هي التأريخ . وتفضح المدونات المفككة قصدياً عن بعد اجتماعي / ثقافي / وسياسي ومع وجود الفردانية في اللوحات إلا أنها ليست فردانية جسدية . بمعنى لا يمكن قراءة المدونات بعيداً عن الوسط / الوسيط المجتمعي ، وتؤسس علاقة بين الأفراد وذاكراتهم وتقترح آلية للتواصل بينهم وقال " هاليفاكس " [ لا توجد ذاكرة ممكنة خارج تلك الأطر الرابطة التي يستخدمها الأفراد داخل المجتمع لكي يثبتوا بها ذاكراتهم ، ولكي يستعيدوها من جديد ، فإذا نشأ إنسان في عزلة تامة ـ بعيداً عن الناس ـ فلن تكون لديه ذاكرة ] والفرد مخزنه الذاكرة ، لكنها مع فردانيته لن تكون جاهزة وفاعلة إلا من خلال الجماعة التي تحددها الذاكرة الاجتماعية الخاصة بالجماعات هو شبكة من تصورات فردية تتبلور وتتضح بتجاورها معاً وتحوز يقظتها الشاغلة / والصافية في المحيط والمهيمنة على المكان / الجدار ومتحكمة به عبر المدوّنات لترسم لنا شبكة رموز ، حروف عربية / انكليزية مفردات كاملة وناقصة ، وامتداد أطراف نازلة من أسفل السواد وتجلط الدم ، لكن الطفولة طافرة رقصاً لتؤكد حضورها الحلمي والأسطوري . أطراف خيطية مثل امتداد الطائرات الورقية ، كل شيء في الجسد خيطي هذه تصورات الطفولة وتخيلاتها . قلنا اليد الخيطية صاعدة امتداداً نحو الشرق واليمنى نحو الأسفل لتؤشر لنا ممكناً لم ننتبه له أو لم نره جيداً ، حتى يؤسس له وجود على الجدار . ورقصة الطفولة فيها تحدٍّ لمنطقة الاحتراف والتجلّط ، ودهشة فرحة أمام جدار ظل منظوراً وفضاءً للعبة الرقص وصعود النشوة . وفي لوحة أخرى للفنان ستار درويش تكرر للوحدة الفنية . وصعود الجدار والمكان باعتبارهما هوية حاضنة للزمان والمكان والدمار والقتل والخوف ودخان الحرائق ومفردات انكليزية حتماً تنطوي على لعنة مع تشظي قطع صغيرة متناثرة من الجدران وألوان متفاوتة كشفت لون الجدار الحاضن للخراب الكامل ، وفي فضاء العمل امتداد منظوري كشف لنا ملصقات كثيرة جداً ، هي مدونات من نوع آخر ، لكننا لا نستطيع معرفة شيء منها . وكأن الفنان ستار درويش أراد هذه المشوشات / الخربشات / المفككة ليؤشر على سرديات حاصلة ، سرديات لم تستطع إقامة علاقتها الاتصالية مع المتلقي ، واكتفت ببث شفرات ستظل متناسلة ومتوالدة دائماً .
السرديات البصرية والأخرى اللا مرئية له حضور وغير محدد ، ويطغي عليه الرمز والثقافة الاحتمالية والتأويل النصّي وفي هذه اللوحة تغيبات ليست اعتباطية ، القصديّة واضحة لأن الفنان كما قلنا أراد خلخلة الطقوس الجدارية وتشويش سردياتها وتحت منطقة السواد كتل ليست قاتمة ، بل اتخذت لون الفضاء السفلي ، وكأنه بقايا سحب دخانية أو ضباب هابط . كتل صغيرة ومدورة والتحديق بها بعدسة مبكرة ، تفاجئنا حروف انكليزية هي الأخرى سقطت بهاوية الحرائق ، لأنها ـ الحروف / اللغة ـ كشاف عن لسان مقطوع ونقاط سود ، ست تحت الكتل الساقطة ، ثلاث سود وأخرى باهتة وعلى يمين اللوحة ثلاث نقاط سود ، ربما هي قطع لحم متناثر . وفي أسفل يمين اللوحة أربع طفلات بدت الأكثر طولاً متجلية ثوبها المفتوح كالمظلة ورأسها المدور وشعرها المختصر بخط أسود قصير على الجانبين . يداها خيطيتان وعلى يمينها طفلة طويلة مثنية الساقين كأنها منطرحة وضاع رأسها بسحابة الدخان والتي يسارها قصيرة وكادت تختفي تماماً أما الأولى على يسارها راقصة محركة يديها . وتشترك اللوحات بوحدات رمزية واحدة وكذلك برموز منها ما هو مستحدث ، أنتجه حاضر وحشي لم يحاكه الفنان بل أنتجه جديداً ، بمعنى التكونات والخلق وعناصرهما ، وكشفت اللوحات الخمس وجود تماثل كما قلنا وإعادة لتجارب مجاورة له ، لكنه اقترح فضاءً خاصاً به . إن الفنان ستار درويش توصل الى معرفة الأشياء في إطار لوحاته الخاصة واستدعاها بإسلوبه الخاص ، المميز له . وأعتقد أنه توصل الى معرفة حسية هي شكل من العلاقة بين السطح التصويري والوحدات المتخيلة أو الذاكرة المستحضرة . لقد قدم لنا طرازه الخاص الذي قال عنه ـ الطراز ـ مالرو ، هو الطريقة الخاصة في إعادة خلق العالم وفقاً لقيم ذلك الإنسان الذي اكتشفه .
نعرف بأن الفلسفة قالت " اعرف نفسك " وستار درويش توصل الى آلية لمعرفة ذاته من خلال الذكريات والذي لا ذكريات لديه لا يعرف نفسه ، الذاكرة هي حجرة الوعي والحدوس والمعرفة والإدراك ، كل هذه هي التي تفضي به للوصول الى لوحات لم يكن الفنان مدركاً ما كان يقوم به ، لأنه كان " يلعب " وتقمصت لعبه الطفولة المندهشة بلعبها الحلمي الأسطوري .
وضعنا الفنان ستار درويش أمام ذاكرة فنية ، لم تجد أكثر صحوة من الطفولة ، ليست طفولته هو ، بل طفولة الحاضر المستدعي حتماً لطفولات الماضي ، التي ستضفي بنا نحو زمن آخر ، قادم ، أضاءت شعرية اللوحات ماذا سيكون عليه المستقبل . المتلقي وحده كفيل بتلمس بعض تفاصيله ، وتنوع المشاركة في البحث عما هو ظاهر على السطح التصويري وانفتاح المنظور ، سيؤدي لقراءة ستراكم توصلات شعرية . واحتمالات انكشاف الأسطورة وانفتاح أحلام الذاكرة الجمعية لتؤشر لنا وللطفولة الآتي الذي حفزنا ستار درويش للتفكير به والتوسل من أجله بالرغم من كل الحرائق والدماء .
الجمال بحاجة لطقوس لحظية وشعائر مستمرة لابد لها من قرابين وتقدمات وسيظل الجدار بمدوناته صارخاً بمرويات الانتظار والترقب .