أعراس القراءة قد تصحب الانسان في مرحلة ما من مراحل العمر، وقد ترافقه حتى آخر العمر. وقراءة كل كتاب غني أو مثير أو جميل هي عرس. عرس ميتافيزيقي إن شئتم، لأنه ليس من الطبيعة، وإنما مما فوق الطبيعة.
وأعراس الطبيعة وما فوقها معا يمكن أن تكون ميتافيزيقية، أو روحية، متى ما كانت نتاج الحب. فالحب لا يشبع ولا يرتوي من موضوعه، كما يحدث في أحوال الجوع والعطش، وانما هو مجاعة دائمة وظمأ خالد. واذا لم يكن كذلك فإنه يمكن أن يكون أي شيء إلا إنه ليس حبا. ليس ذلك الشيء العجيب والمدهش الذي لا يهدأ، ولا ينعس، ولا ينام، كما يحدث للجسد عندما تُسدد حاجاته الطبيعية أو الغريزية.
وقد يحدث للمرء أو المرأة أن يأتوا العالم ويخرجوا منه دون نوال مثل هذا الحب. بل لعل هذه هي حال الأغلبية الساحقة. وليست شهرة أبطال وبطلات الحب في الآداب والأساطير إلا دليلا على ذلك. فهم قلة نادرة في كل أمة، شأن قيس وليلى أو روميو وجوليت أو تريستان وإيزولده. ولم يشتهر هؤلاء ولم يصبحوا قلة نادرة إلا لأن الحب مثل أعلى أكثر منه واقع، وخيال أكثر منه حقيقة.
والمثل الأعلى طُموح، قيمة عليا نسعى لبلوغها، ونتطلع الى تحقيق الكمال من خلالها. واذا استطعنا ذلك أو لم نستطع، وغالبا ما لا نستطيع، يبقى المثل الأعلى منارة نستدل بها، أو مرشدا لسلوكنا. يبقى "واقعا" أكثر من الواقع نفسه. أما الخيال فهو صورة الروح اللائبة والباحثة بحثا دائما عن الحقيقة. إنه أداة العبقرية في المحاولة الأبدية الكبرى لتنمية المعرفة وترقية الإحساس. لذلك فإن في الخيال"حقيقة" أكبر من أي حقيقة.
والحب هو من جنس هذا المثل الأعلى وهذا الخيال اللذين منهما نسج الانسان مملكة الروح. ولكم تعطي هذه المملكة قدرات هائلة على تنويع الحب وتوسيعه وإثرائه. بل لعل واجبها الأخير وهدفها النهائي هو تنمية الحب. ولكن هذه المملكة مأهولة بكل شيء، شأن الأرض، وشأن الحياة البشرية. فهنا توجد كراهية وهناك توجد صحراء. والانسان فُطر على كراهية الصحراء، لأنها أخت العدم، وشقيقة الخواء، وربة الشقاء. مع ذلك فإنه يمكن أن يسكنها أو تسكنه.
ولعل شأن الصحراء مع الأرض هو شأن الكراهية مع مملكة الروح. فكما تشحب الأرض وتذوي الحياة فيها عندما تكون صحراءً، كذلك تفعل الكراهية بمملكة الروح. الكراهية هي تصحير الروح، إفقارها، وأكثر من ذلك وأخطر، هي تحويل مملكة الروح الى أدوات تعذيب وعدوان وقسوة. وليست السياسة التي تقوم على هذه الأدوات سوى هذه الصحراء، سوى هذه الكراهية. فيا إلهي ما أوسع صحراءنا!
وقد استطاعت التكنولوجيا تحويل صحارى الى مدن وغابات وبساتين. لكن ما الذي يستطيع إعمار صحراء مملكة الروح؟ ما الذي يستطيع تحويل الكراهية الى محبة؟
لعل أعراس قراءة الكتب تستطيع. لعل أعراس المتعة بالآداب والفنون تقدر. هل يمكن لقارىء انطوان سانت اكزوبري أن يكون جلادا؟ هل يستطيع قارىء دستويفسكي أن يكون متعصبا؟ هل يمكن أن يكون قارىء هرمن هيسة غليظا؟ وهل يستطيع قارىء "مكاريد" محمد غازي الأخرس أن يكون حاقدا؟
أحمد الله على ان أعراسي مع القراءة لم تنقطع. ولقد أعرست للتو بمقالة "الدخول الى سرداب المكاريد" للأخرس. ثم توقفت عن قراءة بقية المقالات التي ضمها كتابه الصادر مؤخرا، "كتاب المكاريد". قلت أن عرسا واحدا جميلا وممتعا وثريا يكفي ليومي. فهذا سرداب لن تخرج منه كما دخلت. إذ لابد أن نموا ما يحدث لك، واخضرارا ما يعمَّر شيئا من صحرائك. وهذا كثير علي في يوم واحد، خصوصا وأنني رجل شايب، لا يستطيع اجتراح الغرام في وقت واحد مرتين!
بستان المكاريد
[post-views]
نشر في: 22 فبراير, 2013: 08:00 م
جميع التعليقات 1
smh
الصحراء مليانه فراغ او فضاء وهذا اقرب الى الحقيقه