الأربعاء، 16 إبريل 2025

℃ 18
الرئيسية > أعمدة واراء > لكنه لا يعرف للراحة رصيفاً

لكنه لا يعرف للراحة رصيفاً

نشر في: 24 فبراير, 2013: 08:00 م

    المراكشي ياسين عدنان شاعر، قاص وإعلامي بالغ النشاط. أصدر مؤخراً نصاً شعرياً طويلاً ( "دفتر العابر" دار توبقال) من وحي أسفاره التي قطع بها مدناً غربية (ما من مدن شرقية!) في مرحلة عمره الأدبي المبكرة (من مواليد 1970). "دفتر العابر"قصيدة نثر في أغلبها، وزعها الشاعر على أسطر في هيئة أبيات، الكثير منها موقّع، والأسطر غير الموقّعة، من فرط تدفقها واندفاعتها القلبية، على أهبة أن تقفز إلى إيقاع مُفتقد، إلى إيقاعها المُفتقد.

    قرأتُ هذه القصيدة الطويلة قراءة نقدية وهي مخطوطة، وقرأتها بعد نشرها بالاحتفاء ذاته. فياسين يتمتع بلغة حيوية استقاها من نثره القصصي، مرنة وجزلة في آن. متدفقة قلبياً بحيث تترك كل "استعارة ذهنية" وراءها من دون تأثير يُذكر: (جنة النار، غيم النعاس، جسد التيه، إسفلت السهرة...الخ). وبالرغم من أن الشاعر اعتمد البيت الشعري في توزيع الفقرة النثرية إلا أن القارئ، الذي يحب جذوة النثر مثلي، لن يضطره هذا لأن يتقطّع في القراءة تقطّع الأبيات. يصحب الشاعرَ صحبة المستجيب عن رضاً في سفره، أو في "فكرة" سفره، حيث وضعها الشاعرُ في بهو مخيلته، التي تتوزع جدرانها المرايا، فانعكست عليها بأشكال مختلفة، ولكن بجوهر واحد. هذا الجوهر مشدود إلى مراكش، مدينة الشاعر، ولكنه مشدود أيضاً إلى السفر بحمى تبدو أحياناً وكأنها حمى الضرورة الشعرية المفروضة من خارج الشاعر، لا من ياسين ذاته. أحسست بذلك عبر الحالة التالية، التي ولّدت مفارقة في رأسي. فهو في كل أسفاره الغربية: باريس، لندن، أمستردام، بروكسل، ستوكهولم، سان فرانسيسكو، أو داخل الطائرة...إنما يسافر على الحقيقة عن إرادة الراغب المتحمس، مدعواً كان في سفرته أو مسافراً بصورة طوعية. ولكنه داخل القصيدة يخلف انطباع من يعاني برد الاغتراب، الذي نجده عند شاعر مورّط في منفاه لعقود طويلة:

"في مطار هيثرو/ كنتُ أحصي أرواحي في حانة صغيرة...غريباً كحكاية غريبة، وحيداً/ كبطل خارج الحبكة/ متعباً/ كما يليق برحّالة قروسطي/ وكنت أقرأ ابن خلدون.."(ص61)

"سماء كوبنهاجن/ ثقيلة/ حديدية/ سوداء... لكأن السماء/ محضُ إشاعة/ في هذه البلاد. " (ص70-71)

في ستوكهولم "السماء تموت معلّقة/ فوق رؤوس الخلق/ ولا تسقط... بالله عليك أيها الطائر الجنوبي/ ماذا تفعل في برد الشمال." (76-77)

فوق هولندا "لا بحر هناك/ فقط كفنٌ أزرق شاسع يُطبق من فوق." (81)

"في مطار شيكاغو رأيت الحريرَ يصير حديداً/ رأيت الابتسامة تستحيل زجاجاً."(129)

ولكنه على الحقيقة شاعر يغلي السفر في دمه، وما على هذا إلا أن يرى، بفضل السفر، الحديدَ يصير حريراً والزجاجَ ابتسامةً، لا العكس. يقول في مكان آخر:

"لكنني لا أعرف للراحة رصيفاً/ ولا مرسى/ وتُضجرني سكينة الواحات./ قلتُ سأضربُ في الأرض.."(128) ويعلن بصوت عالٍ :

"عمرٌ واحدٌ لا يكفي/ أحتاج أعماراً متلاحقة/ كأنفاسٍ/ لأنصفَ المدن/ وأُعطي الطرقَ حقها/ أحتاج أعماراً مُجنحةً كي أحلق في الأعالي/ بين المدن.." (196)

    الإشكال في مفارقة كهذه يجعلني أرى الاغتراب الصارخ من مظاهر "الطبيعة" و"التقدم التقني" في الغرب أشبه بضرورة يمليها التقليد الشائع خارج الشاعر، لا "الضرورة الداخلية".فنحن الشعراء عادة ما يحلو لنا أن نرى الحرير الغربي يصير حديداً، ولكننا نسعى مستميتين للسفر إليه. هذا السعي للسفر إليه هو عماد التجربة الشعرية الداخلية. وياسين عدنان لم يُقصّر في هذا، فالقصيدة برمتها احتفاء بالغ الحماس بمعانقة هذا السعي. ودليلي إليه لا يقتصر على الشواهد التي أوردتها، والتي لم أوردها، بل هذه الاندفاعة الممرورة حيناً، المغتبطة أحياناً، المُستثارة أبداً في لغته الشعرية ذاتها. فأنت لا تملك إلا أن تقرأ النص في نفَسٍ واحد.

ملاحظة إضافية أترك إجابتها مفتوحة: هل في قصيدة "دفتر العابر" الغنائية لحظات درامية كافية؟ أسأل، لأني أعتقد أن القصيدة الطويلة تحتاج إلى مفاصل درامية. فالغناءُ جملةً نفَسُه قصير، ومفاصل الدراما أشبه بمحركات طاقة لهذا النفَس الغنائي المتواصل، إذا ما كان طويلاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

الحاكم بمنظور إمام سلطة الحق

العمود الثامن: المتشائل

 علي حسين أعترف أنّ الكتابة اليومية تتطلب من صاحبها جهداً كبيراً، فصاحب النافذة اليومية مطلوب منه أن يُقدِّم شيئاً يتجاوز ما اطلعت عليه الناس في الأخبار، وشاهدته من خلال الفضائيات، فالعبور إلى جسر...
علي حسين

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

زهير الجزائري 2 بين القتال والهدنةً القصيرة تغيرت الحياة الاجتماعية. لقد قضى الناس أياماً طوالًا في الملاجئ. نساء ورجال حشروا في مكان ضيق. شبان لم يعرفوا السياسة و ما أرادوا أن يعرفوها انفصلوا عن...
زهير الجزائري

اشكالية السياسة والتعصب تحليل سيكولوجي

د. قاسم حسين صالح المفهوم الشائع عند العراقيين بمن فيهم الكثير من المثقفين ، ان المتدينين يكونون متعصبين والمثقفين متحررين وغير متعصبين ، فهل هذا صحيح ام فيه رأي آخر ؟ لنبدأ بتحديد المفهوم...
د.قاسم حسين صالح

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram