ما اكتبه اليوم حصيلة اسابيع من الحوار المسهب مع عقلاء سنة وشيعة وكرد بارزين ومؤثرين في مجتمعاتهم. انني انتمي لشريحة من الناس لا تمتلك اي تعريف رسمي في العراق، اذ ان العملية السياسية صارت واقعية جدا في تصنيف الناس وتعتقد اننا مثاليون نحلم عبثا بتعريف عابر للطوائف وهو تعريف "غير عملي". لكن صعود الهويات المذهبية يجعلنا ننحشر حشرا في اطارنا الاجتماعي الذي ولدنا فيه. اكتب هذا وانا اتذكر اول جثة رأيتها في حياتي، وكنت قبلها امشي مغمض العيون الى جوار جثث الحروب، لكنني في انتفاضة 91 وقفت لاول مرة اتأمل جثة مقطعة، فيها ألم الضحية، وألم ضحايا الضحية الذين قاموا بتقطيع صاحب بدلة الزيتوني.
انا وكثير من الاصدقاء ولدنا في عوائل جعفرية، ونحن ننظر بقلق الى "صراع الجبابرة" حولنا، والى سيناريوهات توسيع الحروب الدينية. ونفكر في كتابة اعلان باسم اطارنا الاجتماعي المذهبي، قد ينضم اليه جعفريون مؤمنون وعقائديون يرفضون الظلم. نريد ان نقول في "اعلان شيعي مختلف"، وتزامنا مع ذكرى انتفاضة 91 أي الاول من اذار، ان اي رئيس حكومة من مذهب أهلنا الطيبين الكرام، قد يقوم بارتكاب الظلم. لكننا نرفض ان يجري ارتكاب هذا الظلم باسمنا كمنتمين الى إطار اجتماعي ومذهبي محدد. نرفض ان يقول لنا رئيس الحكومة انه "يمارس الظلم بحق الاخرين كي يدافع عنا". ونرفض ان يقول لنا اي سلطان انه "خالف الدستور ونقض العهود وخرق حقوق الانسان وعرض البلاد الى أخطار ماحقة، من اجل تأمين حقوقنا". ان هذه الطريقة ستعني ظلما للشيعة أنفسهم، ووصما لهم بعار تاريخي ظلوا منزهين عنه قرونا.
أتذكر جيدا صبيحة الاول من اذار 91، حيث كانت الاجواء احتفالية لان القصف الاميركي توقف. اي اننا من الناجين لا من القتلى. فأمضينا الصباح نتجول في بستان نخيل قرب نهر "ألبيرت اصفر"، في البصرة، حيث اعلنت الطبيعة حلول الربيع. الفرح بانتهاء حفل الموت وطي صفحة حرب الخليج، لم يكتمل. لكن فجأة رحنا نسمع قعقعة السلاح اتية من بعيد ونسأل: ماذا يحصل يا إلهي هل نقض صدام حسين شروط وقف اطلاق النار؟ لكن الفتيان، وكنا بعمر الفتيان يومذاك، عرفوا سريعا ان "ثورة" اندلعت في البصرة ثم في عشرات المدن. ولاننا عرفنا القمع السياسي مبكرا وزرنا اهلنا في السجون والمقابر، فقد فرحنا لان صدام حسين يواجه ثورة و"سيرحل".
هرع الفتيان الى زاوية في الحقل، كانت هناك عربة دفع صغيرة فيها جسد مقطع يرتدي بدلة حزب البعث زيتونية اللون. اتذكرها الان، وأحاول ان افهم سر تحديقي الطويل في تلك الاطراف المقطعة. لقد تجمدت امام المشهد، وفي وسعي هذه اللحظة ان امارس شيئا من التحليل، لأرى كيف امتزج ألم القتيل الزيتوني، بألم قاتليه من المقموعين سياسيا. كان يتبختر بقوة النظام ويمارس اذلالهم، وبمجرد ان اندلعت "ثورة" صارت فيما بعد "انتفاضة"، اخذوا حياته وقطعوه إربا، بموازاة شعورهم بالمظلومية. عاد اهل القتيل وازلام النظام بعد قمع "الانتفاضة" فقاموا بتقطيع جثث قاتليه الثوار. ثم عاد اهل الثوار ليقطعوا عام 2003 المزيد من الجثث. ولم ينته الموت.
المظلوميات تصنع ثأرا قادرا على تحطيم كل شيء. ولذلك فإن الغرب قام بتطوير آليات العدالة كي يمنع نشوب الحرب، وينشغل باختراع الاي باد واكتشاف الخارطة الوراثية، والسخرية منا نحن الامم الجاهلة. لقد تقدم الغرب وتركنا مجموعات بشرية تتقاتل مثل ضواري الصحراء ووحوش الغابة. وقد بلغنا اليوم مرحلة انفجار رهيب حين لم يعد ممكنا للمستبد ان يبقى، وصار لزاما عليه ان يواجه الشباب الثائرين في كل مكان بشروط العولمة.
الثورة صارت حلوة، فالاحتجاج يسنده فيسبوك وخرائط العولمة ومفوضيات حقوق الانسان الدولية. وهذا يعني ان في وسع المرء ان ينتفض بحثا عما تبقى من كرامته. لكن المشكلة هي في الشعوب التي تقوم بإسقاط الدكتاتور وتظل حائرة بعده وترتكب الخطأ تلو الخطأ.
لقد نجحت انتفاضة 91 عام 2003 ليبدأ سؤال التعايش ومتطلبات العيش المشترك في وطن لا يمتلك صفقة او قاعدة لعب واضحة. وهناك اليوم تطور سياسي بسيط لكنه مهم. فنحن افضل من سوريا لان لدينا شرعية دستورية وتفاهمات رغم انها لاتزال قلقة، بين "ساسة معتدلين".
لكن وضعنا لا يزال هشا. فالسلطان يقول لطائفتي: "ان اهل الانبار يريدون اعادة البعث للسلطة، واعادتكم الى المقابر الجماعية". اما نحن فنريد ان نقول له: لن تخدعنا، وصحيح ان الانبار والناصرية او الموصل والبصرة، فيهما متطرفون من المذهبين يودون مواصلة "قتل القاتل ثأرا للمقتول"، لكن لدينا نحن مقاربتنا المختلفة لما يجري.
فلازلنا نؤمن ان في وسع عقلاء الشيعة ان يمارسوا لعبة سياسية حازمة ويدافعوا عن حقوقهم، انطلاقا من الاعتراف بحق التعدد السياسي في البلاد وحقوق باقي الشركاء (وهذا ما يمارسه بعض العقلاء اليوم فعلا). الا ان السلطان خائف من هذا المسار لانه يحرمه من "تزعم طائفة خائفة". ولذا يمارس مزيدا من الظلم باسم الدفاع عن المذهب، صاعدا جبال الكرد ومخترقا صحراء الرمادي.
اننا نتذكر ألم الجثة الزيتونية وألم قاتليها، ولا نريد ان نبقى مجموعات بشرية تفترس بعضها بنحو بدائي. نحن نبحث عن صفقتنا الخاصة ونحلم بعقد اجتماعي حديث يضمن السلام. وهناك ألف قاعدة لهذه اللعبة لا يريد السلطان فهمها. نحن نقول له: انت تدافع عن اطارك الاجتماعي بطريق خاطئ وجميع "اهل الحل والعقد" يدركون ذلك. عزيزي: في وسعك فعل المزيد ولكن.. ليس باسمنا.
ليس باسمنا: إعلان شيعة عراقيين
[post-views]
نشر في: 24 فبراير, 2013: 08:00 م
جميع التعليقات 7
د. علي الخطيب
الاستاذ الفاضل سرمد الطائي المحترم مقالك رائع بحق ويحمل كثيرا من الالام والاحلام وانني اشاركك الرأي والحلم في آن واحد رغم انني اعيش وانا في منتصف الخمسينيات من عمري الا انني مازلت احلم بالمدينة الفاضله وجمهورية افلاطون واسعى لتحقيقها ولو ضمن حدود عائلتي.
AZ
Great view, thank you so much Mr. Sarmad. We really need people like you and Mr Ali Hussein. God bless you
حنا السكران
تذكرني بمقاربة اخرى عزيزنا الاخ سرمد , البطل والخائن في العراق ,1959 وقفة على ساحة بقربها جرت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم , كان عبد الكريم قاسم بطلا والغريري محاولا اغتياله خائنا ,1969 عبد الكريم قاسم خائنا والغريري بطلا ينصب له تمثالا في مكان الحادث ,
عبد الرحمن الجبوري
اتفق معك ولن ازيد لان مقص الرقابه عندكم حاد جدا. ولم ارى اي تعليق ينشر وهذا تعليق رقم 10 وكل تعليقاتي مهذبه
سعيد
آلمالكي لايسعى فقط آلى مصادرة فقط آصواتنا (نحن آلشيعة آلمغلوبون على آمرهم) بل يتعدى ذلك آلى آلنطق بآسم مرجعية محترمة كمرجعية آلسيد علي آلسيستاني رغم رفض آلمرجعية لذلك فقد صرح آلمالكي في آلبصرة قبل يومين بما يلي حتى أني تحدثت مع السيستاني وقال ارفعوا صور
خليل النعيمي
الاساذ الفاضل سرمد لك عيني رحم الله والديك خليت ابدك على الجرح
maz
الاستاذ سرمد المحترم شكرا للمقال الرائع فنادرا ما اكمل المقالات ان لم تكن موزونه وذات رسالة. قبل 10 سنوات تحديدا في 2003 عملت لدى اللجنة الدولية للصليب الاحمر, للتوعية عن مخاطر المقذوفات الحربية غير المنفلقة erwa وكانت نظرة الغرب متمثلة برئيس القسم السويد